Thursday 14 April 2011

أعلام مقدسية - إبراهيم أبو غوش

المصدر: كتاب أعلام فلسطين في أواخر العهد العثمانيّ- للأستاذ عادل منّاع:

أحد زعماء آل أبو غوش في النصف الأول من القرن التاسع عشر. تولّى مع أخيه جبر زعامة بني مالك وقيادة صف اليمن مدة طويلة، ولذلك لُقّبا بمشايخ جبل القدس. وشارك في ثورة سنة 1834 على الحكم المصري في فلسطين، فسجنه إبراهيم باشا في عكا. وعقد الأخير صفقة مع آل أبو غوش أطلق إبراهيم بموجبها وعيّن أخاه جبر متسلم (حاكم) سنجق القدس في مقابل انسحابهما من صفوف الثوار، الأمر الذي أضعف تلك الثورة وسهل على إبراهيم باشا عملية القضاء على التمرد.

يتفق معظم المصادر والمرجع العربية والأجنبية على أنّ أصل آل أبو غوش من العساكر الشراكسة (1)، قدِموا إلى البلد مع الفتح العثمانيّ. وفي القرن السادس عشر عيّنتهم الدولة لحراسة الطريق الرئيسة بين يافا والقدس، فسكنوا قرية العنب وبنوا مركزهم فيها. وأصبح آل أبو غوش بعد ذلك من العائلات الإقطاعية القوية في المنطقة وزعماء صف اليمن في جبل القدس.

ويرتبط اسم العائلة بقرية العنب ومشيختها منذ أواسط القرن الثامن عشر. وقد برز في أواخره الشيخ عيسى أبو غوش الذي يُعتبر مؤسس العائلة. وفي نهاية القرن الثامن عشر توفي عيسى أبو غوش، زعيم العائلة، وخلّف أولاده الأربعة، عثمان وإبراهيم وجبر وعبد الرحمن، الذين أصبحوا مؤسسي فروع آل أبو غوش الرئيسية حتى يومنا هذا.

وبعد وفاة عثمان البكر ورثه إبراهيم في زعامة العائلة ومشيخة ناحية بني مالك. وذلك منذ أواخر سنة 1226ھ/1811م على الأقل. ففي ذلك التاريخ يرد اسمه في سجل المحكمة الشرعية في القدس مقروناً بلقب شيخ مشايخ نواحي القدس. ووطّد إبراهيم زعامته على المنطقة بالتعاون مع إخوته وأقاربه، واصطدم في سبيل ذلك مع العائلات الإقطاعية المنافسة، وعلى رأسها آل سمحان، زعماء صف القيس في جبل القدس. واستمرت المناوشات بين الصفين مدة طويلة، وكانت المعارك بينهم تتجدد بين الفينة والأخرى، لكن التفوّق فيها كان غالباً لآل أبو غوش في ذلك العهد.

وكان لمشايخ النواحي التزام جمع الضرائب في مناطقهم، فقوى ذلك مركزهم الاقتصادي والاجتماعي أيام ضعف الإدارة والحكم العثماني في المنطقة. فقد جمع هؤلاء ثروة كبيرة من وظيفتهم تلك، بالإضافة إلى ضريبة الغفر التي كانوا يجبونها من أهل الذمة المارين على الطريق بين القدس ويافا. وقد وصل مركز إبراهيم وعائلته أوجه في النصف الأول من القرن الماضي وحين قام تمرد في القدس على الحكم العثماني في فترة 1824-1826 لم يستطعْ ولاة الشام وعكا إعادة احتلال المنطقة مدة طويلة. ولم ينجحْ عبد الله باشا، والي عكا، في ذلك إلا بعد استمالة إبراهيم أبو غوش وجماعته وتعهّدهم فتح الطريق أمام جنوده. وفعلاً تقدّم جيشه إلى القدس. وبعد حصارٍ قصير للمدينة فتحت سلماً وعاد الحكم فيها إلى والي الشام.

وحين تقدّمت جيوش محمد علي باشا لاحتلال فلسطين في أواخر سنة 1831، طلب إبراهيم أبو غوش الأمان، وقدّم الطاعة للحاكم الجديد. وكانت سياسة محمد علي وحكمه للمنطقة يتناقضان ومصالح أبو غوش منذ البداية. فقبل فتح عكا اصدر إبراهيم باشا الأوامر إلى علماء القدس وأعيانها بإبطال ضريبة الغفر والأموال المفروضة على الكنائس والأديرة. وأدّت هذه السياسة إلى التذمّر والسخط بين عائلات العلماء والأعيان في لواء القدس، فتخوّف إبراهيم باشا من قيام ثورةٍ قبل تمكّنه من المنطقة. لكن إبراهيم باشا أتمّ احتلال الشام وأقام حكْماً مركزياً قوياً كانت نتيجته الحتمية تضييق الخناق على نفوذ مشايخ الإقطاع في المناطق الريفية، أمثال أبو غوش. ولذا، حين قامت الثورة على الحكم المصري في فلسطين سنة 1834 اشترك فيها آل أبو غوش وعلى رأسهم إبراهيم وأخوه جبر. وألقى إبراهيم باشا القبض على الأخيرين وألقاهما في سجن عكا. لكن محمد علي توصّل معهما إلى اتفاقٍ ينسحبان بموجبه من الثورة في مقابل العفو عنهما وإعادتهما إلى زعامتهما وتعيين جبر متسلماً على القدس. وفعلاً نفّذ الاتفاق ونجح الحكم المصري في القضاء على الثورة في جبل القدس، وعيّن جبر متسلّماً على اللواء في صيف سنة 1834. ولما كان إبراهيم في ذلك الحين عجوزاً هرِماً قام أخوه جبر بالدور الرئيسي في الزعامة والمشيخة. وبقِيَ إبراهيم على قيد الحياة حتى سنة 1836 على الأقل، إذْ يذكر اسمه مع أخيه جبر في حجج بيع وشراء عديدة تم تسجيلها في سجل المحكمة الشرعية في القدس. وتضعضع نفوذ آل أبو غوش في المنطقة مؤقتاً إبان الحكم المصري، وتوفي إبراهيم في أواخر الثلاثينات، لكن ابنه مصطفى قام بدور مهم بعد عودة الحكم العثماني في الأربعينات، كما سيجيء تفصيل ذلك في ترجمته.



(1) أكّدت مراجع علميّة أخرى أنّ أصل آل أبو غوش يعود إلى قبيلة  شمر الطائية.. وقد سُمّيت العائلة بهذا الاسم نسبةً لمؤسسها وهو الزعيم القبلي محمد الملقب بأبي غوش، ابن عبد الله بن الضرغام من الفداغة من سنجارة من زوبع من شمر من طيء القحطانية، حيث قدم هذا الزعيم من الحجاز في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي وكان أول ظهورٍ له في السجلات المدنية للمحاكم الشرعية في القدس حيث أوّل ما سكن سكن مدينة القدس. ومن ثمّ انتقل إلى قرية العنب التي تزعّمها فيما بعد وسمّيت باسمه "قرية أبوغوش".. ومن أولاده عيسى وعبدالله الملقّب بـ"أبو قطيش".
ومن رجالات أبو غوش الشيخ مصطفى أبو غوش الذي كان ندّاً قويّاً للحكومة العثمانيّة. وتوجد عائلات قريبة لـ"أبو غوش" منها البطاينة في الأردن حيث هم أبناء عمومة، والأحمد وأبو بكر والحوت في فلسطين والأردن، فهي تجتمع في الأصل عند الضرغام الفداغة سنجارة الشمرية.
وأبو غوش رأس صف اليمانية في جبل القدس حيث صمدوا أمام القيسية في الشمال والغرب والجنوب كما قال إحسان النمر. وعائلة أبوغوش تنتشر اليوم في القدس وقرية العنب وقرية عمواس المهجّرة ورام الله وغزة. المصادر:
  • عمواس.. تأليف  يعقوب  أبوغوش- 2004.
  • عشيرة  البطاينة من بطون  شمر في  الأردن-2005.
  • تاريخ  شرقي  الاردن  وقبائلها، فردريك بيك-1934.
  • تاريخ  جبل  نابلس والبلقاء،1975، إحسان النمر.

Wednesday 13 April 2011

أعلام مقدسية - أحمد آغا العسلي الدزدار

المصدر: كتاب "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثمانيّ"، للأستاذ
 عادل منّاع:

(توفي سنة 1290ھ/1873م)
قائد قلعة القدس (دزدار) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومتسلم اللواء، ووكيل المتسلم أكثر من مرة خلال تلك المدة. جمع ثروةً كبيرة واشترى الكثير من الأراضي، وأصبح من أعيان المدينة البارزين في أواسط القرن الماضي.

هو أحمد آغا بن فضل الدين آغا العسلي. والعسلي عائلة عريقة في بيت المقدس، عُرِف منها كبار العلماء. لكن بعض أفرادها دخل الجندية، وخصوصاً في حراسة القلعة فعُين منهم قائد القلعة، الدزدار ولما شغل أفراد العائلة هذه الوظيفة جيلاً بعد جيل، غلب هذا الاسم على العائلة. وكان والده دزداراً، وجابياً للضرائب من القرى التابعة للخاص السلطاني. وانضمّ أحمد آغا إلى جند القلعة. ولما توفّي والده انتقلت الوظيفة إليه.

وحين نشبت ثورة 1825-1827 في القدس على رجال الدولة العثمانية، كان أحمد آغا أحد قادة تلك الثورة. وبسبب مؤهلاته العسكرية قاد مع يوسف آغا الجاعوني عملية الدفاع عن القدس بعد طردِ رجال الدولة منها. وطلبت الدولة من عبد الله باشا، حاكم عكا، إعادة فتح المدينة وتخليصها من أيدي المتمردين. وبعد عدة أيام من حصار المدينة وقصفها بالمدافع، توسّط العلماء بين قائد الجيش المحاصِر وبين قادة الثورة. وسُلّمت المدينة شرط العفو عن الثوار وعدم معاقبتهم. فأرسل أحمد آغا ويوسف الجاعوني إلى عكا. وتقرّر العفو عنهما مع نفيهما عن بيت المقدس. وأمّا أحمد فقد أُبعِد إلى نابلس مدة قصيرة فقط، ورجع إلى القدس بعدها وإلى منصبه في قيادة القلعة. وخلال العقد الثاني من القرن الماضي، أُوكِل إلى أحمد آغا منصب الميرالاي أيضاً، وهو قائد أصحاب الإقطاعات من الزعماء وأرباب التيمار في لواء القدس. وبعد عامٍ من تعيينه بالوكالة، عُيّن في تلك الوظيفة بالأصالة سنة 1241ھ/1826م. وفي رمضان 1244ھ/1829م عيّنه والي الشام متسلماً في لواء القدس بالوكالة بعد عزل المتسلم السابق.

ولما جاء الحكم المصري في الثلاثينات، ضعف مركز أحمد آغا في البداية لكنه تأقلم مع الحكام الجدد وتعاون معهم. وعيّنه محمد شريف باشا حكمدار إيالات الشام ليكون متسلّماً للواء القدس في 9 ذي القعدة 1254ھ/24 كانون الثاني (يناير) 1839 وبقِيَ في منصبه ذاك حتى 22ربيع الثاني 1256ھ/23 حزيران (يونيو) 1840م. وأُعطِيَت المتسلّمية إلى حسين راشد آغا. لكن الحكم المصري كان آخر أيامه، لما انسحبوا من البلد وعاد العثمانيون في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) عيّنوه متسلماً بالوكالة مرة ثانية. وفي مدة تسلّمه الحكم في القدس في أواخر العهد المصري، أثيرت قضية ساحة البراق التي طالب اليهود بالسماح لهم بتبليطها. وقد عارض المتولّون على وقف أبي مدين الغوث وعلماء بيت المقدس طلبهم هذا، فرُفع الأمر إلى السلطات المصرية العليا. وفي أيار (مايو) 1840م صدر مرسوم محمد شريف بمنع اليهود من تبليط ساحة البراق لأنها (تابعة لوقف أبي مدين ولم يسبقْ لهم هكذا أشياء بالمحل المذكور) ولذا يسمح لهم بالزيارة فقط من دون رفع أصواتهم وقت الصلاة.

وبعد عودة الحكم العثماني واستقراره، لم يتكرّرْ تعيين أحمد آغا متسلماً للواء القدس ثانية. لكنّه عُيّن في عدة وظائف أخرى. فقد عُيّن متولياً على أوقاف خيرية مهمة، بما فيها التكية العامرية، وناظراً لأوقاف خاصكي سلطان، بالإضافة إلى وظيفة الدزدار، قائد القلعة. وفي 19 ربيع الأول 1262ھ/17 آذار (مارس) 1846م عُيّن مأمور ضبطية الخليل. وفي الأعوام التالية استوطن أحمد آغا القدس. وكان ابنه محمد علي ينوب عنه في الكثير من أعماله. وجمع أحمد آغا من خلال عمله ثروة عظيمة، فاستثمر قسماً منها في شراء الأراضي في المناطق القريبة من القلعة. وفي تلك الفترة، في أواسط القرن الماضي، ازدادت أهمية القدس وقدُم الأجانب من مسيحيين ويهود، واستثمروا أموالهم في البناء والإعمار. وبدأت عملية البناء خارج الأسوار، فارتفعت قيمة الأراضي، وتاجر أحمد آغا فيها حتى أصبح من أثرياء القدس وأعيانها البارزين. وفي سنة 1271ھ/1855م باع أحمد آغا موشيه (موزس) مونتفيوري، الثري الصهيوني البريطاني المشهور، قطعة الأرض التي أقيم عليها حي يمين موشيه أو مشكنوت شأننيم، في الجهة الجنوبية الغربية من القلعة. وقبض أحمد آغا ثمن تلك الأرض مبلغاً قدره اثنا عشر غرشاً أسدياً، وهي العملة الدارجة في ذلك العهد. وقد بنى لنفسه، مثل باقي أعيان بيت المقدس، قصْراً فخماً خارج الأسوار، ويُقال إنّ اليهود ساعدوه في بنائه. وقد عمر طويلاً، إذ توفّي سنة 1873، أي بعد عام واحد من وفاة ابنه البكر الذي كان أحمد آغا يعتمد عليه كثيراً.

Tuesday 12 April 2011

أعلام مقدسية - الشيخ موسى إبراهيم البديري

المصدر: موقع عائلة البديري

هو موسى بن  إبراهيم بن عثمان بن الشيخ محمد بن بدير بن حبيش الشافعي المقدسي. وُلِد في القدس عام 1871 وتوفي عام 1947. تلقّى علومه في الأزهر الشريف حيث درس الشريعة و الفقه الإسلامي ومن ثم عاد إلى القدس وباشر عمله في الوعظ والإرشاد مستعينا بمكتبة جده الشيخ محمد البديري إلا أنّه عاد والتحق بكلية الشريعة في الأستانة وبعد تخرّجه عاد إلى القدس ليدرس العلوم الإسلامية في المدرسة الصلاحية معزّزاً إياها بحلقات الدروس الدينية والتي كان يعقدها في مكتبة البديري.
عمل الشيخ موسى في القدس قاضياً وتم إبعاده من قِبَل الحاج أمين الحسيني إلى حيفا إثر خلافٍ بينهما حول معارضته استعمال الحاج أمين لأحد الدور الموقوفة في باب السلسلة حيث إنّ الشيخ موسى كان يعارض استغلال أصحاب النفوذ للممتلكات العامة. وبعد عمله في حيفا انتقل إلى مدينة نابلس وعمل أيضاً قاضياً فيها.
عاد إلى القدس  وأكمل عمله بالقضاء وانتُخِب كرئيسٍ قيميّ الصخرة المشرفة. وانتخب ليرأس مجلس علماء فلسطين حيث كان له غرفة بالحرم القدسي يعقد فيها الندوات ويدرس فيها الطلبة. درس الشريعة في الكلية الصلاحية التي أنشأها جمال باشا والتي عادت اليوم للرهبان الفرنسيين. كان يستقبل كبار علماء المسلمين وهم في طريقهم للحج والعمرة للتدارس في أمور الإسلام والمسلمين وله عدة مؤلفات ضُمَّت إلى مكتبة جدّه الشيخ محمد بدير.
كان عالماً تقياً ورعاً مستقيماً نزيهاً عن اللسان والبنان سديد الإيمان والتمسك بالإسلام، بروحه وجوهره دون قشوره، يرفض البدع ويتوخّى الدقة والصدق والأمانة والإخلاص في حياته وعمله وقد كان على شدة تدينه والتزامه بتعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه متسامحاً مع من يخالفه الرأي إلا في حقيقة الدين، والقرآن، والأحاديث الصحاح المتفقة مع القرآن.
وقد كان يستند في هذا إلى أنّ الشريعة الإسلامية هي الشريعة السمحاء ويهتدي بما جاء في قوله جل وعلا "وادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ولو كنت فظاً غليظ القلب لنفضوا من حولك". وقد كان يفهم الدين الإسلامي على أنّه ثورة على الوثنية والظلم والتسلّط والاستبداد والاستغلال والأنانية والاحتكار، ودعوة إلى الحبّ والإخاء والمساواة إذْ لا عبودية إلا لله، وأنْ لا فضل لأحدٍ على الآخر إلا بالتقوى وأنّ الخلق كلهم عيال الله أحبّهم إليه أنفعهم لعياله، ودعوة إلى التكافل والتضامن والتعاون والإيثار، "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، ورفض الاقتتال والتنابز والأنانية والتنافس إلا في خدمة خلق الله وإحقاق الحق وإعلاء كلمة الله.
 ومنذ احتلال القدس في أوائل ديسمبر سنة 1917 م من قِبَل الإنجليز بقيادة الجنرال اللنبي، تعرّض الشيخ موسى لمضايقات السلطات العسكرية فكان كثيراً ما يُستدعى للتحقيق معه في الدروس التي كان يلقيها في الحرم والتي كان يحذّر المسلمين فيها من موالاة الإنجليز والاطمئنان إليهم والتعاون معهم، وكانت عنده حلقات درسٍ في علوم الدين والفقه واللغة العربية والتي كان يعقدها في الجامع والمدرسة الملاصقة لدار البديري الكبيرة في باب الحبس مقابل المجلس الإسلامي الأعلى والتي تضمّ قبْر الجدّ الكبير للعائلة الشيخ محمد بن بدير منشئ الجامع والمدرسة وموقفها.
 وقد وقعت مشادّات ومصادمات بين الشيخ موسى البديري وبين الحاكم العسكري آنذاك الجنرال "ستروس" إلى حدّ أنّه فكّر جدياً بالهجرة إلى الحجاز هرباً من أذاهم.
وقبل منتصف سنة 1921 م عُيّن الحاج أمين الحسيني مفتياً خلفاً لأخيه كامل الحسيني الذي توفّي في هذه السنة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه سبق تعيين المفتي حملة شعبية واسعة تطالب بتعين الحاج أمين الحسيني مفتياً خلفاً لأخيه المتوفّى رغم أنّه لم يفُزْ في الانتخابات التي أُجرِيت بين العلماء وكان ذلك تعبيراً عن التضامن معه كطريدٍ للسلطة وتأييداً له في كفاحه ضد الانتداب ووعد بلفور والهجرة اليهودية الصهيونية. وكان الشيخ موسى البديري من بين المرشحين ونال أصواتاً أكثر من الأصوات التي نالها الحاج أمين الحسيني غير أنّ عائلة البديري عامة والشيخ عبد الرحمن البديري وكامل البديري خاصة كانا من أنصار تعيين الحاج أمين وأنشط الدعاة له. ذلك لأنّ الحاج أمين الحسيني كان من الوجهة السياسية أنسب من الشيخ موسى البديري الذي كان ورعاً تقياً والسياسة تتطلب الخداع والمكر والدهاء.

Thursday 7 April 2011

أعلام مقدسية - الشيخ فائق الأنصاريّ

المصدر: "مجاهدون من فلسطين"، د. علي صافي حسين:

وُلِد الشيخ فائق الأنصاريّ سنة 1895م "خمس وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة" في منزلٍ بجبل صهيون قرب مقام نبيّ الله داوود –عليه السلام-، وقد ظلّ فيه حتّى نيّف على العشرين من عمره، ثمّ انتقل إلى إحدى دور الأوقاف بالقرب من باب حطّة بناحية باب الأسباط، ولعد جانْ قضى فيه مع أمّه وأبيه وسائر إخوته نحو تسعة أعوام، بنى لنفسه منزلاً في محلّة الشيخ جرّاح شمال باب العمود.
ابتدأ الشيخ فائق حياته العلميّة بدراسة القرآن وتجويده في المسجد الأقصى، ثمّ التحق بالمدرسة الإسلاميّة الكائنة بظاهر سور المسجد الأقصى من جهة باب الساهرة والتي عُرِفت بعد سيطرة الانتداب البريطانيّ على القدس باسم "كليّة الروضة" والتي ظلّت تتبع دائرة الأوقاف الإسلاميّة حتّى ضمّت القدس وغيرها –ممّا تبقّى من مدن وقرى فلسطين في أيدي العرب- إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة تحت اسم "الضفّة الغربيّة".
وقد تلقّى الشيخ فائق في تلك المدرسة مختلف العلوم الدينيّة واللغويّة بالإضافة إلى اللغة التركيّة التي كان يفرضها العثمانيّون على طلاب المدارس الإسلاميّة في مختلف البقاع الشاميّة.
وكان –رحمه الله- يتردّد بين الحين والحين على مجالس الوعظ وحلقات الفقه ودروس الحديث في كلٍّ من الصخرة المشرّفة والمسجد الأقصى المبارك، وبعد أنْ نال إجازة المدرسة المذكورة التحق بإحدى الوظائف الإداريّة في محكمة الاستئناف الشرعيّة بالقدس، ثمّ نُقِل إلى إدارة الأوقاف، حيث أُسنِد إليه الإشراف على أوقاف التكارنة وتكيّة الأتراك.. وقد ظلّ يباشر مهام منصبه هذا حتّى اصدر المجلس الإسلاميّ الأعلى قراراً بترقيته شيخ سدنة المسجد الأقصى حتّى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف ميلاديّة.
وقد أتاحت له هذه الوظيفة الجديدة فرص المشاركة السريّة والعلنيّة في الأعمال الوطنيّة بعيداً عن أعين الإنجليز، إذْ كان له من وظيفته ما يبعد عنه الشكوك والشبهات، إذْ لم يكنْ يخطر للإنجليز على بال أنّ شيخ سدنة المسجد الأقصى يجيد حمل البندقيّة ويحسن استعمال الأسلحة الأوتوماتيكيّة بل وإلقاء القنابل اليدويّة وتفجير أصابع الديناميت.

الشيخ فائق شحادة حسن الأنصاريّ شيخ الحرم القدسيّ، لم يغادر الحرم طوال فترة القتال 1948

ولا غرو، فقد كان –رحمه الله- قد ضرب بسهمٍ وافر وقام بجهدٍ كبير في محاربة الصهاينة ومقاومة البريطانيّين إبّان ثورة سنة 1936م.
وقد استهلّ جهاده في سبيل تحرير بلاده من حكم البريطانيّين وتطهيرها من دنس الصهاينة الغاصبين بالانتماء إلى جمعيّة "اليد السوداء" التي كان يرأسها "شكيب قطب" والتي كانت تقوم بمختلف الأعمال الفدائيّة ضدّ الصهاينة وعساكر الإنجليز.
وكان أوّل عمليّة فدائيّة أُجرِيَت تحت إشراف الشيخ فائق هي تدمير سيّارة عسكريّة إنجليزيّة كانت تقف خارج باب الأسباط لاعتراض جماهير المسلمين الذين كانوا في طريقهم من المسجد الأقصى إلى محلّة رأس العمود ليستقلّوا السيّارات لزيارة النبي موسى جرياً على العادة المتّبعة كلّ عام، إذْ ظلّ المسلمون منذ أيّام صلاح الدّين الأيّوبيّ يخرجون في شهر نيسان (أبريل) من كلّ عام إلى زيارة النبيّ موسى احتفالاً بمولده –عليه الصلاة والسلام-.
تمّ أكثر –رحمه الله- من العمليّات الفدائيّة داخل القدس وخارجها، فقد حدث أنْ ألقى بنفسه قنبلة يدويّة من خلف سور المسجد الأقصى على جمهرةٍ من الصهاينة أمام حائط البراق.
وفي الفاتح من شهر أيّار (مايو) سنة ستّ وثلاثين (1936م)، خرج الشيخ فائق ومعه أربعة من الفدائيّين الذين كانوا يسيرون خلفه دون أنْ يشعر أحدٌ بأنّهم في صحبته إلى جهة محطّة القدس العموميّة للسكك الحديديّة لتنفيذ عمليّة نسف القطار الذي كان قد تقرّر قيامه من المحطّة المذكورة في تمام الساعة الحاديّة عشرة بعد ظهر ذلك اليوم، لينقل مئات الجنود من الإنجليز والصهاينة إلى تل أبيب، للمحافظة عليها من هجمات المجاهدين الذين كانوا يحدقون بها وقتذاك تحت قيادة الشيخ حسن سلامة.
وقد استطاع الشيخ فائق ورفقاؤه من أعضاء جمعيّة "اليد السوداء" أنْ ينسفوا ذلك القطار بعد خروجه من المحطّة بدقيقتيْن فقط، إذْ انفجرت أصابع الديناميت التي وضعوها تحت عجلاته عند مروره فوقها عند أوّل طريق بيت صفافة-القدس. وقد دُمّرت القاطرة وتحطّمت ثلاث عربات، وقُتِل وجُرِح عددٌ كبيرٌ من الإنجليز، أمّا الصهاينة فلم يُصَبْ منهم في تلك الحادثة سوى خمسين فرداً.
وفي شهر آب (أغسطس) من هذا العام نفسه أوكلت قيادة اليد السوداء إلى الشيخ فائق أمر تفجير قنبلةٍ يدويّة في دبابة إنجليزيّة كانت تقف أمام باب الخليل قرب القشلاق، وكانت الحيلة تقضي أنْ يكون الفدائيّ معمّماً كيْ يتسنّى له الاقتراب من تلك لديار دون أنْ يعترضه أحد الجنود.ومّما يثير الدهشة أنّ الشيخ فائق قد ألقى القنبلة بيده في جوف الدبّابة وعيون الإنجليز ترنو إليه. ويقول شهود العيان إنّهم لم يرتابوا فيه، ولا ظنّوا أنّه هو الذي ألقاها. وقد تظاهر بالخوف والفزع وألقى بنفسه على الأرض متظاهراً بالإغماء.
وفي سنة ثمانٍ وأربعين كان الشيخ فائق يقضي الليالي وحده في غرفته بالمسجد الأقصى والأبواب مغلقةٌ عليه، وقنابل اليهود تتساقط من حوله، وقد ذكر لي بنفسه أنّه أحصى ما ألقاه اليهود على الصخرة المشرّفة في ليلةٍ واحدةٍ بألفٍ ومائتيْ قنبلة.
وقال إنّه ذهب في صبيحة ذلك اليوم على رأس وفدٍ من أهالي القدس إلى لكتيبة الأردنيّة التي كانت تعسكر في جبل المكبّر ليطالبهم بالجدّ في المحافظة على المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة، وقال لذلك القائد الذي كان يتلقّى أوامره من جلوب باشا الإنجليزيّ: "إذا كنتم لا تريدون المحافظة على المسجد الأقصى فإنّ الجماهير من أهالي القدس مستعدّون للدفاع عنه والمحافظة عليه بأرواحهم، ولا نريد منكم سوى أنْ تعطونا هذه البنادق التي في أيديكم".
وفي أُخريات شهر نيسان (أبريل) سنة ثمانٍ وأربعين (1948م)، قام اليهود بهجومٍ على باب العمود فتصدّى لهم الشيخ فائق على رأس فريقٍ من الحرس الوطنيّ. وقد دامت المعركة نحو ساعتيْن، انجلَتْ بهزيمة الصهاينة وانتصار المسلمين.. غير أنّ الشيخ فائق قد أصيب في صدره بإحدى شظايا قنابل اليهود، ثمّ حُمِل إلى مستشفى المطلع بالطور حيث أُجرِيَت له عمليّة جراحيّة لاستخراج تلك الشظيّة، ولكنّه ظلّ متأثّراً بهذه الجراح حتّى صعدت روحه إلى الملأ الأعلى سنة تسعٍ وأربعين (1949م)، بعد حياةٍ حافلةٍ بأعمال البطولة والفداء. 

Wednesday 6 April 2011

الشيخ مهدي شيخ أوقاف حارة المغاربة

المصدر: "مجاهدون من فلسطين"، د. علي صافي حسين


نشأ هذا الشيخ المجاهد في بلدة من أعمال فاس بالمملكة المغربيّة، وقد استهلّ حياته العلميّة بحفظ القرآن وتجويده على رواية ورش، ثمّ التحق بجامعة القرويّين حيث درس العلوم الدينيّة واللغويّة، وكُلّف أثناء ذلك بحفظ أشعار المشارقة كالمتنبّي وأبي تمّام والبحتريّ وأبي علاء المعريّ. وقد استظهر كتب ابن مالك –كالألفيّة في النحو- ومؤلّفات ابن هشام –كمغني اللبيب في قواعد العربيّة، وشرح حروف المعاني-. كما درس بطريقة التلقّي والرواية كتاب الخليل الكبير في فقه مالك، وصحيح مسلم في الحديث، وكتاب الموطّأ الذي هو من تأليف الإمام مالك صاحب المذهب الفقهيّ الذي يعتنقه جميع عرب المغرب بلا استثناء.

فلمّا ثار الأمير عبد الكريم الخطّابي على الاستعمار الفرنسيّ والأسبانيّ، انضمّ الشيخ مهدي إلى تلك الحركة التحرريّة وانضوى تحت لوائه.
وقد كان ذا حظوةٍ لديه طيلة السنوات الأربع التي حرّر فيها الأمير عبد الكريم جميع البلاد المراكشيّة من جنود الاحتلال، فلمّا عاد الاستعمار الفرنسيّ والأسبانيّ إلى مراكش سنة 1926م وأُسِر الأمير عبد الكريم، خرج الشيخ مهدي مهاجراً إلى بلاد المشرق واستقرّ به المطاف في بيت المقدس، حيث ولاه المجلس الإسلاميّ الأعلى إدارة شؤون أوقاف حارة المغاربة، وسكن الحارة المذكورة في منزلٍ بإزاء سور المسجد الأقصى، على مقربةٍ من حائط البراق الذي كان وما زال يؤمّه اليهود على اختلاف مذاهبهم المليّة ونزعاتهم الدينيّة يبكون وينتحبون على قتل نبيّ الله يحيى –عليه السلام- لاعتقادهم أنّه بقيّة من جدار هيكل سليمان وهو زعْمٌ لم تثبت صحّته حتّى الآن بل إنّ بطلانه في تقدير علماء التاريخ والآثار كان وما زال هو الصحيح.

وقد اشترك الشيخ مهدي في التحريض على الثورة التي اندلعت شرارتها من المسجد الأقصى سنة 1929م، إذْ كان الشيخ مهدي وغيره من علماء الإسلام قد وقفوا يخطبون الناس في يوم الجمعة إثر أداء الصلاة ويحضّونهم على الثورة ضدّ الصهاينة والإنجليز. وقد اندفع في ذلك اليوم الشيخ مهدي من رحاي المسجد الأقصى على رأس جماعةٍ من سكّان باب السلسلة وحارة المغاربة إلى حيّ اليهود بالقدس القديمة فقتلوا عدداً غير قليلٍ ممّن وقع في أيديهم من الصهاينة الدخلاء، وفي اليوم التالي اعتُقِل الشيخ مهدي ووُضِع في سجن المثقوبيّة بظاهر سور القدس جنوب غرب الهوارة. وقد لبث في السجن بضعة أشهر ثمّ أُطلِق سراحه بعد أنْ أكثر السيّد موسى كاظم من بذل المساعي والاتصالات لدى المندوب السامي، وعند الإفراج عنه طالبه الإنجليز بانْ يقسم على المصحف أنّه لن يعود إلى تحريض الناس ضد اليهود ولكنّه امتنع وقال لهم في صراحة وشجاعة ورباطة جأشٍ منقطعة النظير إنّ الجهاد فرض عينٍ على المسلمين إذا ما حلّ بدار الإسلام احتلالٌ أو استعمارٌ أو وقع عليها أيّ لونٍ من ألوان العدوان.

وفي ثورة 1936م اشترك في المعارك التي كان يخوضها المجاهدون بقيادة الشيخ سعيد العاص في جبال القدس والخليل. ويُقال إنّه كان على مقربةٍ منه حينما وقع شهيداً بفعل رصاص الأعداء في قرية حوسان.

ومّا ألّف السيّد شكيب قطب جماعة الفدائيّين الذين قاموا بإغلاق مدينة القدس سنة 1937م كان الشيخ مهدي يقود إحدى مجموعاتهم التي كانت تعسكر عند باب الشهباء المؤدّي إلى جبل صهيون، وقد ظلّ على ذلك الحال 40 يوماً ثمّ قرّرت حكومة الانتداب أنْ تستولي على القدس القديمة بالقوّة والعنف، فأرسلت نحو ستّة آلاف جنديّ مسلّحين بالمدافع الرشاشة والبنادق سريعة الطلقات وبالقنابل والمتفجّرات. ولمّا لم يكنْ الفدائيّون يملكون غير المسدّسات وبعض البنادق العتيقة وقد نفد ما لديهم من ذخيرة، فقد انسحبوا أمام الإنجليز وكان في مقدّمة المنسحبين شكيب قطب نفسه، أمّا الشيخ مهدي فإنّه قد ظلّ حيث هو يُطلِق النار تجاه جموع عساكر الإنجليز من خلف احد الجدران حتّى نفدت ذخيرته، ولولا أنْ أخذه الشيخ عارف الشريف إلى منزله حيث أخفاه هناك عن أعين الإنجليز لأسروه وقتلوه ولكنّ الله سلّم، إذْ قُدِّر له أنْ يعيش حتّى عام 1045م، ثمّ فاضت روحه إلى بارئها وهو يتلو القرآن، تحت قبّة الصخرة المشرّفة.

وقد قال الذين اجتمعوا به في أخريات حياته إنّه كان يأسف على نجاته من رصاص الإنجليز، إذْ كان يودّ أنْ يظفر بالشهادة أُسوةً بسلفه المجاهدين من أمثال الشيخ سعيد العاص، وعبد الرحيم الحاج محمد وعزّ الدين القسّام. 

Tuesday 5 April 2011

أعلام مقدسية - الشيخ عبد القادر المظفّر

المصدر: "مجاهدون من فلسطين"، د. علي صافي حسين


اشتهر الشيخ عبد القادر المظفّر –في حياته- بالصدق في القول والإخلاص في العمل، والتفاني في سبيل الله والوطن، وكان محبّباً لدى أصدقائه ومخالطيه موقّراً عند خصومه ومخالفيه، فلم يُسمَع ذمّه من أحد، ولا طعن في عرضه إنسان، يل كان يذكره الجميع برباطة الجأش وقوّة الشكيمة ومضاء العزيمة وحسن التديّن وعمق الإيمان.

وُلِد الشيخ عبد القادر المظفّر بالقدس القديمة، سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة (1892م) في بيت علمٍ وأدب، إذ كان والده يشغل منصب مفتي الحنفيّة بمدينة القدس، ويشرف على إدارة الوعظ والإرشاد في مختلف أنحاء البلاد، وكان معروفاً بالتقى والورع، مشهودٌ له بالتفوّق على أقرانه في الفقه ورواية الحديث.

وقد عُنِيّ الشيخ المظفّر بتربية ابنه تربيةً دينيّة ونشئه تنشئةً وطنيّة– إذ كان يحفّظه بنفسه القرآن ويعلّمه تجويده، ويدرّسه كتب الفقه، ويروي له أشعار لحماسة، وأخبار الأبطال المكافحين.

وقد ظلّ يأخذ العلوم الدينيّة واللغويّة عن أبيه حتّى توفّاه الله وكانت سنّه وقت أنْ قُبِض والده نحو الخامسة عشرة فكفله عمّه الذي كان آنذاك ضابطاً في الجيش التركيّ وكان أحد جماعة الضبّاط
 العرب الذين كانوا يعملون على تخليص الشعوب العربيّة من نير الدولة العثمانيّة.


المؤتمر  العربيّ الفلسطينيّ الخامس الذي انعقد في نابلس بتاريخ 22 أغسطس 1922م

وبعد وفاة الشيخ المظفّر بنحو سنتين ارتحل الشيخ عبد القادر إلى القاهرة حيث انتسب إلى رواق الشوام بالأزهر، وقد ظلّ في جواره يستظهر العلوم الدينيّة واللغويّة حتّى نال الشهادة الأهليّة المؤقّتة سنة 1918م.

ثمّ عاد إثر انتهاء الحرب العظمى إلى فلسطين ليجد الحال فيها قد تبدّل من شيّء إلى أسوأ إذ كان الإنجليز قد خلفوا الأتراك في احتلال البلاد وأخذوا يعيثون فيها فساداً.

ولا غرو فقد استهلّ الإنجليز حكمهم فلسطين بفتح أبواب الهجرة اليهوديّة على مصراعيها من جهة، ونقل ملكيّة الأراضي الأميريّة إلى الأيدي الصهيونيّة من جهةٍ أخرى؛ الأمر الذي أثار حفيظة الشيخ عبد القادر ضدّ الصهاينة وأحنقه على الإنجليز، فراح يخطب الناس إثر صلاة الجمعة في المسجد الأقصى تارةً، وفي مسجد عمر بن الخطّاب تارةً أخرى، يحثّهم على الثورة والجهاد للمحافظة على الأرض من اغتصاب الصهيونيّين وتحرير البلاد من حكم  الانتداب، فأغضب بذلك البريطانيّين وأقضّ مضاجع الصهيونيين، فأوعزت الوكالة اليهوديّة إلى المندوب السامي الإنجليزي أنْ يأمر باعتقاله فتردّد بادئ الأمر، ولكنّه عاد فاستجاب لزعماء الصهاينة ونفّذ لهم ما طلبوه، إذْ انتهز فرصة الثورة التي اشتعلت سنة 1920م للمطالبة بوقف الهجرة اليهوديّة وإلغاء وعد بلفور وإقامة حكومة عربيّة مستقلّة في البلاد، فأمر باعتقال الشيخ عبد القادر المظفّر ووضعه في سجن المسكوبيّة بتهمة تحريض الجماهير على الثورة ضدّ الصهاينة والبريطانيّين؛ ثمّ رأى المندوب السامي أنْ يكسب ودّ هذا الخطيب المفوّه عسى أنْ يتحوّل عن مبدئه، ويصبح أحد صنّاع الإنجليز، فأخرجه من السجن، وأسند إليه منصب الإفتاء.. غير أنّ ذلك لم يكنْ بالطعم الذي يوقِع الشيخ عبد القادر في الشَرك الأثيم، أو يخرجه من حلبة المكافحين وزمرة المجاهدين بل ظلّ –رحمه الله- ينافح عن الأماكن المقدّسة، ويكافح في سبيل تحرير فلسطين..

ففي شهر آب (أغسطس) سنة 1922م كان الشيخ عبد القادر في مقدّمة الداعين إلى المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ الخامس الذي انعقد في نابلس والذي أقرّ فيه المؤتمرون بالإجماع الميثاق الوطنيّ التالي:
"نحن ممثّلي فلسطين، أعضاء المؤتمر العربيّ الفلسطينيّ الخامس، نقسم أمام الله والأمّة والتاريخ بانْ نواصل المساعي المشروعة لتحقيق الاستقلال والاتّحاد العربيّ، ورفض الوطن القوميّ اليهوديّ، والهجرة الصهيونيّة..".

وفي اليوم الثالث عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ثلاثٍ وثلاثين وتسعمائة وألف (1933م) خرج الشيخ عبد القادر المظفّر من المسجد الأقصى يقود جماهير المصلّين في مظاهرةٍ عارمة، تندّد بالانتداب البريطانيّ، وتستنكر في شدّة وعنف فكرة إنشاء وطنٍ قوميّ يهوديّ في فلسطين، وتطالب في إلحاحٍ وتصميم بوقف الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وقد أمطر عساكر الإنجليز جموع المتظاهرين بوابلٍ من رصاص بنادقهم، فاستشهد عددٌ غير قليل وأصيب خلْقٌ كثير بجراحات مختلفة، ثمّ قبضوا على الشيخ عبد القادر المظفّر وعلى اثنيْن آخرين من رجال الوطن المخلصين، وبعد أنْ قضوا في قشلاق البوليس بقلعة القدس زهاء عشرين يوماً حوكموا محاكمةً صوريّة، ثمّ صدرت الأحكام عليهم بالإعدام، وبذلك نال الشيخ عبد القادر شرف الاستشهاد.



Monday 4 April 2011

أعلام مقدسية - محمد إسعاف النشاشيبي


هو محمد إسعاف بن عثمان بن سليمان النشاشيبي، وُلِد في عام 1885م بالقدس لأبٍ من كبار أثرياء الشام.. فعاش ربيبَ نعمة، في سعة من العيش وبَسطة في الرزق.

وُلِد وعاش في القدس، وتعلّم في المدرسة البطريركيّة ببيروت، ثم كَتب كثيراً في الصحف والمجلات، ونَظَمَ الشعرَ ثم تركه، وقد وَرِثَ عن أبيه ثروةً عظيمة.

والعلامة إسعاف النشاشيبي أحدُ علماء القدس الشريف، نذَر حياته للذَّوْدِ عن اللغة العربية التي تمثّل جزءًا أساسياً من الشخصية الإسلامية. وعاش مجاهدًا بلسانه وقلمه، عَلَمًا للأدب وواحدًا من رجالات عصره الذين أمدهم الله بموهبة فَذَّةٍ بلَّغتْهم كمالَ القول وجمالَ التعبير، وبقدر ما كان ذلك العَلَمُ ضئيلَ الجسم نحيلَه كان يأخذ بزمام الأمور في المجالس إذا تحدّث، ويوجّه دفة الحديث إذا أَطلق لسانَه مُتناوِلاً قضيةً من القضايا، في حضور كرام العلماء والأدباء والشعراء، ورجال السياسة والسفراء.

أحوال عصره:

عاصر أديبنا النشاشيبي حِقْبَة التراجع العربي والإسلامي، وانْقِضَاض الاستعمار الأوروبي على المشرقِ الإسلاميِّ أواخرَ القرنِ التاسعِ عَشَرَ وأوائل القرن العشرين، ورأى من قومه أقلاماً وألسنة مفتونةً تنادي بأخذ حضارة الغرب بحَسَنِها وخبيثِها، ومَنْ ينادي باستعمال الحروف اللاتينية في الكتابة إمعانًا في الانْسلاخِ من كلّ ما يمتُّ للهوية بصلة. وقد صبَّ النشاشيبي نيرانَ غضبِه على المتغرِّبين المنسلِخين من إسلامهم، الداعِينَ إلى إهْدَارِ العربية ونبذها.

مواقفه:

حينما قلَّدَهُ رئيسُ جمهورية لبنان وسامَ الاستحقاق المذهّب، قام النشاشيبي فألقى خطبة بليغة، جاء فيها: ".. وإنَّا ـأممَ اللسانِ الضادِيِّـ لَعُرْبٌ، وإن لغتَنا هي العربيةُ، وهي الإرْثُ الذي ورِثْنَاهُ. وإنَّا لَحَقِيقُونَ -والآباءُ هُمُ الآباءُ واللغةُ هي تلك اللغةُ- بِأَنْ نَقِيَ عربيةَ الجنسِ وعربيةَ اللغةِ، نَقِيَ العَرَبِيَّتَيْنِ مما يَضيرُهُمَا أو يُوهِنُهُمَا..".

أعماله:

راح العلامة النشاشيبي يُصدِر مؤلَّفاته التي ظهر فيها نُضجٌ كبير وعمقٌ في الرؤية والفهم، داعيًا أمته إلى المجاهدة التي لن تنجح بالإيمان والشجاعة وحدهما، بل لا بدّ معهما من الإحاطة بالعلوم الحديثة، وقد أشار إلى أنَّ انتماءَه للعربية لا يَعني إغفالَه لما تَحْوِيهِ الحضارةُ الأوروبيةُ من جوانبَ مهمةٍ يَنْبَغِي استيعابُها.. ولم يدْعُه إيمانُه العظيمُ بحضارة المسلمين إلى نَبْذِ الحضاراتِ الأخرى والنَّأْيِ عن التزوُّدِ منها بما يتفق وروحَ الإسلام، ويُعيّن على الجهاد. فمن أقوالِه في كتاب "قلب عربي وعقل أوروبي": "تِلْكُمْ مَدَنِيَّةُ الغرب، فالخيرُ كلُّ الخيرِ في أنْ نَعرفَها، والشرُّ كلُّ الشرِّ في أنْ نَجهلَها، وإنّا إذا عَادَيْنَاهَا -وهي السائدةُ السَّاطِيَةُ- اسْتَعْلَتْنَا، وإنَّا إذا نابذْناها ونَبَذْنا عليها حَقرتْنا، وهي مدنِيّةٌ قد غَمَرَت الكرةَ الأرضيةَ، فليس ثَمَّةَ عاصمٌ وإنْ أَوَيْتَ إلى المِرِّيخِ".

وكان النشاشيبي أحد أعضاء المَجْمَعِ العلمي العربي بدمشق، ونُعِتَ بأديب العربية، وقد أثْرى المكتبةَ العربيةَ بعدة مؤلفات كرَّسَهَا لتخدم العربية ولتتناول عظماء العرب بما هم أهلُه من إبراز المحاسن والمنجزات، ومن تلك المؤلفات: "كلمة في اللغة العربية"، "قلب عربي وعقل أوروبي"، "العربية في المدرسة"، "البطل الخالد صلاح الدين"، "الشاعر الخالد أحمد شوقي"، "العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي". وكانت مجلة الرسالة تَعقد ندواتٍ أدبيةً ثريةً تدعو إليها خيرةَ رجال الأدب والعلم، ومن هنا توطّدت العلاقةُ بين الأستاذ النشاشيبي وبين الأديب الكبير أحمد حسن الزيّات، صاحب مجلة الرسالة، الذي أثنى على النشاشيبي بقوله: "لقد وَقَفَ نفسَه وجهدَه على دراسةِ الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيلِ اللغة العربية وعلومِها وآدابِها من منابعِها الصافية، فكان آيةً من آيات الله في سعة الاطّلاع وتَقَصِّي الأطراف، وتمحيص الحقائق.. لا تُذكَر مسألة إلا كان له عنها جواب، ولا تُثار مشكلة إلا أشْرَقَ له فيها رأيٌ، ولا تُروَى حادثةٌ إلا أورد عليها المَثل، ولا يَحضر ندوتَه أديبٌ مطَّلِعٌ إلا جلس فيها جلسة المستفيد، فهو من طراز أبي عبيدةَ (معمر بن المثنى) والمُبَرِّدِ، لذلك كان أكثرُ ما يكتبه تحقيقًا واختيارًا وأماليَّ، وكان خاتمةَ طبقة من الأدباء اللُّغويين المحقِّقين".

لقد نَفَذَ النشاشيبي إلى أعماق العربية، وفي سبيلها تجرع كئوس التعب، حتى نَبَشَ جُلَّ كتبِها تحصيلاً وفهمًا واستظهاراً، يتجلى ذلك بأقلِّ متابعةٍ لكتاباته التي حَوَتْ بين جنباتها عِلمًا ونوادرَ وطُرَفًا منتقاةً من مئات الكتب لأرباب البلاغة والبيان من أمثال: "عيون الأخبار" لابن قتيبة، و"شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد، و"معجم البلدان" و"معجم الأدباء" لياقوت الحموي، و"خاص الخاص"، و"يتيمة الدهر" للثعالبي..

وفاته:

كان الرجلُ شغوفًا بالقاهرة، متطلّعًا لشاعرِها الأكبرِ صديقِه الحميمِ؛ أحمد شوقي، يَفِدُ إليها كلَّ عامٍ مُتَطَبِّبًا، وربما طَبَعَ بعضًا من كُتُبِهِ. وفي شتاء عام 1948م كان على موعدٍ مع القدر، حيث قَضَى نحبَه بأحد مستشفيات القاهرةِ بعد حياةٍ حافلةٍ بالعطاء زاخرةٍ بالجهاد والكدّ والمصابرة.