Friday 1 April 2011

أعلام مقدسية - الشيخ أمين العوري

المصدر: "مجاهدون من فلسطين"، د. علي صافي حسين


 كان رحمه الله مجاهداً مستتراً، قد بالغ في التقية، وأحاط أمره بسياجٍ سميك، من الكتمان فلذلك جهله أكثر الناس، ولم يعلم بأمره إلا القليل.

 وُلِد الشيخ أمين ببلدةٍ في شرق شمال فلسطين اسمها "بيت عور"، ثمّ اصطحبه أبوه إلى القدس وهو في العاشرة من عمره حيث ولِيَ منصباً رفيعاً في إدارة الإفتاء بالمجلس الإسلاميّ الأعلى.

ولمّا أشرفت سنّ الشيخ أمين على العشرين؛ أرسله أبوه إلى مصر لأجل تلقّي العلم بالأزهر، فجاور فيه نحو اثنتيْ عشرة سنة، نال في نهايتها شهادة العالِميّة المؤقّتة، ثمّ عاد إلى فلسطين حيث ولِيَ منصب قيّم الصخرة المشرّفة ببيت المقدس، ولم يلبثْ أنْ رقّاه المجلس الإسلاميّ الأعلى إلى منصبٍ أجلّ وأخطر من الناحيتيْن الدينيّة والإداريّة، إذْ أُسند إليه منصب أمين عام سرّ الإفتاء، ثمّ أضيفت إليه وظيفة مدرّس التفسير بمسجد الصخرة شرّفها الله، وقد ظلّ يدرّس كتاب جامع البيان في تفسير القرآن للعلامة القرطبيّ، مع قيامه بمهام منصبه في إدارة الفتوى بالمجلس الإسلاميّ الأعلى حتّى نال الشهادة.

كان الشيخ أمين –رحمه الله- موضع ثقة جماهير المجاهدين، ومستودع سرّ قادة المناضلين في كلٍّ من القدس ونابلس والخليل، طيلة أيّام ثورة 1936م، كما كان يتمتّع بتقدير رئيس وأعضاء اللجنة العربيّة  التي كانت تتولّى وقتذاك أمْر الإشراف على سيْر الثورة الفلسطينيّة تنظيم شؤون المجاهدين، ومنْ ثمّ أصبح الشيخ أمين يمثّل حلقة الاتصال بين اللجنة العربيّة وقادة الثورة في جنوب فلسطين وشمالها، إذ كان -رحمه الله- يتنقّل بين الخليل والقدس وبين القدس ونابلس لمباشرة عمليّة توزيع الأسلحة على جماعات الثوّار، في تلك الجهات، وللوقوف على احتياجات المجاهدين ليبلّغ بها المسؤولين في اللجة العربيّة من جهة؛ ويتقل أوامر وتوجيهات اللجنة المذكورة إلى قادة المقاتلين في تلك الأنحاء من جهةٍ أخرى.

ولم يقتصرْ نشاط الشيخ أمين على حمل الأسرار والتنقّل بالأخبار بين اللجنة العربيّة وبين الثوّار، كما لم يقف كذلك جهاده –رحمه الله- في سبيل تحرير فلسطين من طغيان الصهاينة وعسف البريطانيّين إبّان ذلك الحين، عند مهمة نقل الأوامر والتوجيهات وإبلاغ الرغائب وسط الحاجات في ترداده بين مختلف قيادات المجاهدين في جبال السامرة والقدس والخليل –من ناحية- وبينهم وبين أعضاء اللجنة العربيّة من ناحيةٍ أخرى، بل شارك –طيّب الله ثراه وأكرم مثواه- مشاركة فعليّة في العمليّات العسكريّة ووضع الخطط التكتيكيّة لكيفيّة الإغارات الليليّة على المستعمرات الصهيونيّة والمعسكرات البريطانيّة..

وقد اخبرني شاهد عيانٍ، أنّ الشيخ أمين العوري قاد بعض فصائل المقاتلين من المجاهدين الفلسطينيّين، في المعارك التي دارت رحاها بين "العيزريّة" و"أبو ديس" على الطريق بين أريحة والقدس وفي جهة الطور وسلوان وقريتيْ شعفاط وقلندية.

وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين) سنة ستّ وثلاثين، خرج الشيخ أمين من داره الكائنة في حارة السعديّة بالقدس القديمة، ميمّماً شطر المسجد الأقصى لأداء صلاة العصر، إذْ كان قد اتّفق من قبْلُ على "مهمّة سريّة" مع أعضاء اللجنة العربيّة تستهدف نسف قطار البضائع القادم إلى القدس من تلقاء يافا، وكان من المقرّر أن يتلقّى-رحمه الله- إشارة البدء في تنفيذ تلك الخطّة إثر انقضاء صلاة العصر ذلك اليوم، وقد شرع الشيخ أمين في تنفيذ الخطّة المذكورة حيث أظهر أمام المصلّين اعتزامه القيام بجولةٍ تفتيشيّة حول مساجد قرى بني حسن الواقعة جنوب عرب بيت المقدس، أذكر منها على سبيل المثال بلدة عين كارم وقرية الروحة ومحلّة تتر، وذلك بناءً على قرارٍ صادر من المجلس الإسلاميّ الأعلى بندبه للقيام بتلك المهمّة الذي اتّخذ فعلاً بقصد صرف أنظار الناس عن حقيقة المهمّة الوطنيّة التي نيطت به –رحمه الله- ليكون في أدائها بمأمنٍ من عيون الإنجليز.

خرج الشيخ أمين من باب السلسلة متّجهاً نحو باب الخليل وهو أحد أبواب القدس الشهيرة، فلمّا جاوزه أخذ سمته تجاه حي دار أبي ثور وظلّ سائراً على قدميْه حتّى انتهى إلى بركة السلطان حيث كان ينتظره أحد التكارنة وبين يديْه حقيبة لا يختلف مظهرها في شيء عن حقائب رجال الوعظ المتنقّلين بين مختلف القرى في فلسطين أثناء ذلك الحين، فتابع معه السير حتّى بلغا حيّ اليونان بالقدس الجديدة عند أول طريق بيت صفافة، فقابلهما رجل يقود سيّارة متوسّطة الحجم، فأومأ إلى الشيخ أمين بإشارةٍ متّفقٍ عليها أنْ اركب معي، فأخذ –رحمه الله- الحقيبة من ذلك التكريريّ وأمره أنْ يعود من حيث أتى دون أنْ ينبس ببنت شفة كي تظلّ المهمّة خفيّة حتّى يقدّر لها النجاح، ثمّ اتّجه الشيخ أمين بصحبة قائد السيّارة إلى بيت صفافة جنوب القدس الجديدة فبلغها وقت أنْ تعسجد الشفق واحتدمت زرقة السماء، وهناك أدّى الشيخ أمين صلاة المغرب ثمّ تابع سيْره إلى بتير فوصل إليها قبيل العشاء بقليل حيث التقى هناك بعض المجاهدين المنوط بهم تنفيذ عمليّة نسف القطار المذكور آنفاً، فأعطاهم الشيخ أمين الحقيبة طبقاً للخطّة المرسومة وكانت مليئة بالديناميت والمتفجّرات.

وفي تمام الساعة الحادية عشرة من مشاء ذلك اليوم، تمّ نسف القطار تحت إشراف وملاحظة الشيخ أمين الذي استشهد في تلك الحادثة إذْ شَجّتْ رأسه إحدى الشظايا المتناثرة، واستقرّت في مخّه رحمه الله. 

No comments:

Post a Comment

شارك برايك