Saturday 19 February 2011

مكانة القدس الثقافية زمن الأيوبيين والمماليك

المصدر: الدكتور محمد الجاغوب - منتدبات واتا الحضارية

تَغْلبُ على الفترة التاريخية الواقعة بين سنتي 400-922 هـ تسمية تصفها بعصور الانحطاط الفكري، ومن المؤسف أنّ هذه المقولة قد سيطرتْ على عقول الكثيرين، إلاّ أن الباحث عن الحقيقة لن يجدَ صعوبة في دحض هذا الوصف وإبطاله، وذلك بالاستناد الى بعض الدلائل المنطقية.
لقد وصف المستشرق جيب Gibb هذه العصور بأنها عصور فضية، لأنها شهدت ازدهاراً فكرياً، تدلُ عليه كثرةُ المدارس والمساجد التي كانت تقوم بوظيفة المدرسة، وكثرة المكتبات وانتشارها في حواضر مصر والشام، وكثرة الزوايا والخوانق والربط ودور القرآن الكريم، وكثرة البيمارستانات التي كانت تضطلع بمهمة التعليم إلى جانب دَوْرها في العلاج .
لقد حرص الخلفاء والسلاطين في العصرين الأيوبي والمملوكي على بناء المدارس في حواضر مصر والشام، دعماً للحركة العلمية والفكرية، ولتهيئة النفوس للجهاد، ولمقاومة العقائد الإسماعيلية، ولم يقتصر بناء المدارس على الحكام والسلاطين، وإنما ساهم في بنائها الأغنياء والمعلمون والسيدات .
وقد تنوّعت هيئات التدريس في كل مدرسة بين الشيخ والمدرس والمعيد، ونالتْ هذه الهيئاتُ مكانة مرموقةً، وكان يتمُ تعيينُ المدرس في كثير من الأحيان بمرسوم سلطاني، كما تمتعت هذه المدارس بدور اجتماعي وسياسي واقتصادي، إلى جانب دَوْرها الفكري، وكان طلاب العلم يحصلون على الإجازة العلمية أو الشهادة، وقد صُنفتْ تلك الشهادات والإجازات الى صنفين أحدهما إجازة من مُعَيَّن إلى مُعَيَّن، وهي مشهورة وشائعة، وغالباً ما تكون في كتاب أوفي موضوع مُعيَّن، وتتعلق موضوعاتها بالإفتاء والتدريس، ورواية الحديث والقراءة. وثانيهما إجازة من مُعيَّن إلى غير معيّن، وهي قليلة، كأن تكون من مدرس أو شيخ إلى فلان من الناس، أو إلى من لم تره عَيْني .
وكان أسلوب الإجازات العلمية يشتمل على المقدمة، كالتحميد والصلاة على النبي الكريم، ثم العرض وهو الإشادة بالعلم والعلماء، ثم الخاتمة ويوقعها أربعةٌ من الشهود، وقد عُرفَ من أشهر المجيزين في مدارس بيت المقدس كل من جمال الدين بن جمّاعة، وشمس الدين الجزري، وابن حجر العسقلاني وغيرهم، أما عدد المدارس في بيت المقدس إبان العصرين الأيوبي والمملوكي فقد قارَبَ السبعين مَدْرسةً، أهمها:

المدرسة الدواداريّة:أنشأها الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله بن عبد الباري الدوادار سنة 695هـ في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، ووقف عليها أوقافاً كثيرة، منها قرية (بير نبالا) من أعمال القدس، ووقفَ عليها فُرْناً وطاحونةً ومصْبَنةً وستة حوانيت ووراقة في مدينة نابلس، وأربع طواحين في بيسان، ويظهر ذلك في الكتابة المنقوشة على بابها .
وتقع هذه المدرسة في باب "شرف الأنبياء" شمال الحرم، وسُمي باب المسجد بها، فقيل بابُ الدواداريّة، ومن مهماتها تبليغُ الرسائل عن السلطان، وإبلاغ عامة الأمور، وتقديم البريد، ويتّضحُ من هذا أنّ الدوادارية وظيفة تُطلقُ على مَنْ يقومُ بهذه الأعمال، واعتمدتْ هذه المدرسة في تدريسها المذهب الشافعي، ومن أشهر المدرسين فيها شريف الدين الحوراني، والقاضي برهان الدين بن جماعة الكناني. ولا تزال هذه المدرسة قائمة، وتشغلها المدرسة البَكرية الابتدائية للبنين .

المدرسة السُلامية:
وتُنسب إلى واقفها الخواجا مجد الدين أبي الفداء إسماعيل السُلامي، ومُوْقعها في باب "شرف الأنبياء"، تجاه المدرسة المعظمية، بجوار الدوادارية من الشمال، وكانت كلمة "خواجا" تُطلقُ على المعلم والسيد والتاجر في العصر المملوكي. ومن أبرز شيوخها ابن خليفة المغربي، وابنه محمد المغربي الأصل، المقدسي المولد، كان حافظاً للقرآن الكريم ومختصاً بالفقه المالكي، وتَبَوأ مكانة مرموقة في بيت المقدس، وتولى مشيخة المغاربة، وتوقيت المسجد الأقصى، توفي سنة 889 هـ، ومنهم أيضا كمال الدين المغربي، وهو أبو البركات شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، حفظ القرآن الكريم، ودَرّسَ النحو، وتوَلّى الإمامة في جامع المغاربة، واستمرت هذه المدرسة في أداء دورها في الحركة الفكرية حتى نهاية العصر المملوكي، وهي الآن مَسكن لجماعة مِن آل جار الله .

المدرسة الجاولية: 
تُنسَبُ إلى واقفها الأمير علم الدين بن عبد الله الجاولي، أسسها في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، موقعها في الجهة الشمالية من الحرم قرب درج الغوانمة، درّ ستْ الفقه الشافعي والحديث، وفي العهد العثماني صارت داراً للحكومة، وفي العهد البريطاني صارت داراً للشرطة، وتشغَلُ بناءَها هذه الأيام المدرسة العمرية للبنين .
المدرسة الباسطية:
تُنسبُ الى واقفها القاضي زين الدين عبد الباسط الدمشقي، وتقع شمال الحرم، بجانب شرف الأنبياء، وتطلُ على المدرسة الدوادارية، درّس فيها عدد من العلماء الأجلاء في العلوم الشرعية واللغوية، من أشهر مشايخها : شمس الدين المصري الشافعي، الذي نشأ في حلب، وحصل على إجازات عديدة، وشرف الدين بن العطار، وتقي الدين القلقشندي المقدسي، الذي برع في العلوم الشرعية، وعلوم اللغة العربية والحساب، وقد مَنَحَ هذا العالم الإجازاتِ لطالبي العلم، مثل : مجير الدين الحنبلي الذي أُجيزبكتاب (مُلحة الإعراب) للحريري .
  
المدرسة العثمانية: 
تُنسبُ إلى أصفهان شاه خاتون بنت محمود العثمانية، التي وقفتها سنة 840هـ، تقع في باب المتوضأ إلى الغرب من ساحة الحرم، تجاه سبيل قايتباي، وأول من تولى مشيختها من العلماء الوافدين الإمام سراج الدين الرومي، وقد ذكر مجير الدين الحنبلي أن سراج الدين انصرف عنها باختياره، عندما علم أنه يُشترط في شيخها أن يكون أعلم أهل زمانه، فقال "أنا لا أتصف بهذه الصفة". وقد تنوعت موضوعات الدراسة فيها بين العلوم الشرعية كالحديث والتفسير والفقه، وعلوم اللغة كالنحو والصرف والبيان، والعلوم العقلية كالمنطق.

 المدرسة الأشرفية:
 تنسب إلى السلطان أبي النصر قايتباي، موقعها غرب الحرم بالقرب من باب السلسلة، كانت تشتمل على مجمع وخلوة، وعُينت لها أوقاف في مدينة غزة، ومما يدل على عناية قايتباي بها أنه خصص للشيخ فيها خمسمائة درهم، ولكل واحد من طلابها خمسة وأربعين درهماً في كل شهر.
يقول مجير الدين الحنبلي "إن الأشرفية جوهرة ثالثة في بيت المقدس بعد المسجد الأقصى وقبة الصخرة"، كانت فيها خزانة كتب، وتعددت فيها الوظائف، مثل وظيفة البواب والفراش والوقاد والسقا والشاهد، ولكل وظيفة راتب محدد، أهم مشايخها شهاب الدين العمري، وكمال الدين بن أبي شريف.

المدرسة الصلاحية : 
أسسها صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ بعد التحرير، محل الكنيسة المعروفة "صندحنّه" ولعلها تكون محرفة عن "القدّيسة حنه" تقع في باب الأسباط، وقد ذكرها ابن واصل الحموي، وابن خلكان، وقفها صلاح الدين على المذهب الشافعي سنة 588هـ، كانت في مقدمة المعاهد العلمية في القدس، ويذكر "المحبي" أن مشيختها كانت مشروطة لأعلم علماء الشافعية في ديار العرب .
حاول إبراهيم باشا هدمها في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ثم سلمها الأتراك للفرنسيين، فأقاموا فيها مدرسة القديسة حنّه، بعد ذلك استعادها جمال باشا في الحرب العالمية الأولى، وحولها إلى كلية دينية علمية باسم "كلية صلاح الدين الأيوبي".
ومن خلال الاطّلاع على جدول الدروس فيها يتبين أنها كانت تدرس تجويد القرآن في الصباح وبعد صلاة العصر، وتدرس الفقه أربع ساعات يومياً، والعبادات ست ساعات، وتدرس اللغات الشرقية والغربية اختيارياً، وتدرس المنطق والرياضيات، ويلعب طلابها الرياضة البدنيّة نصف ساعة، وتعطى لهم دروس عملية في الهواء الطلق، وفي يوم الخميس يذهبون للتنزه، كان شيخها يُعيَّن تعييناً ويعمل تحت إمرته أربعة قضاة، واحد للشافعية، وثان للحنفية، وثالث للمالكية، ورابع للحنابلة.
وقد تعاقب على التدريس فيها ثلاثون شيخاً أشهرهم  بهاء الدين بن شداد الموصلي، ومجد الدين بن جهبل الحلبي الشافعي، وفخر الدين بن عساكر الدمشقي الشافعي، وبرهان الدين بن جماعة الكناني الحموي ثم المقدسي الشافعي الذي كان مغرماً باقتناء الكتب، وعلاء الدين الحواري الشافعي، الذي كان عالماً بالفرائض والحساب، وصنف كتاباً مهماً أسماه "كفاية الطلاب في علمي الفرائض والحساب"، وعز الدين بن عبد السلام المقدسي الذي ولي مشيختها سنة 831 هـ، وقد نشأ في قرية "كفر الماء" من أعمال عجلون، وتنقل بين مصر والقدس، والسلط والكرك ودمشق، كما عمل فيها نحو خمسين معيداً في التدريس، نذكر منهم تقي الدين القلقشندي، وشمس الدين الصفدي، وعلاء الدين الخليلي، وبرهان الدين الحسيني، وشمس الدين البغدادي، وغيرهم.

المدرسة النحوية:
أنشأها الملك المعظم عيسى بن الملك العادل سنة 604 هـ، نال النحو العربي فيها اهتماماً كبيراً، ومن الكتب التي كانت تدرس فيها: كتاب "سيبويه"، وكتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسي، وكتاب "إصلاح المنطق" لابن السُكَيت، وكتاب "ملحة الإعراب" للحريري، كما دُرِّس فيها الأدب والبلاغة والعروض. تقع هذه المدرسة إلى الغرب من صحن الصخرة المشرفة، كان يتعلم فيها خمسة وعشرون طالباً، من العلماء الذين درسوا فيها تقي الدين بن الرصاص الأنصاري المقدسي، وابنه علاء الدين، واستمرت المدرسة في أداء دورها العلمي حتى نهاية القرن التاسع الهجري.

الخوانق والزوايا والربط : 
كانت الخوانق تقوم بما تقوم به المدارس ومعاهد العلم الأخرى، وقد اتخذ العلماء من الرُبط أماكن للمطالعة، والكتابة، وتصنيف الكتب، وقد أنشئت منها مراكز كثيرة في بيت المقدس زمن المماليك منها:

 الخانقاه الصلاحية:
أنشأها صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير القدس من الصليبيين، ووقفها على المتصوفة سنة 585 هـ، موقعها قرب كنيسة القيامة، وكان الشيخ المسؤول عنها يعين بتوقيع سلطاني، من أبرز العلماء الذين تولوا شأنها
الشيخ غانم بن علي المقدسي النابلسي الخزرجي، قدم إلى القدس من قرية بورين الواقعة جنوب مدينة نابلس، كان من عباد الله الأتقياء، ومن أصحاب الكرامات، توفي في دمشق سنة 632 هـ.
استقر في الخانقاه الصلاحية عدد من المتصوفة وطلاب العلم، اشتغل بعضهم بالقراءات ونسخ الكتب، والوعظ والقضاء والميقات، ومن هؤلاء المتصوفة : تاج الدين عبدالوهاب المعروف بابن شيخ السوق.

الزاوية الختنية: 
أنشأها صلاح الدين الأيوبي، ووقفها على الشيخ جلال الدين بن أحمد الشاشي، موقعها بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر، سميت بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ المعروف بالختني، لعبت دورا بارزا في الحركة الفكرية في القدس، تولى مشيختها عدد من كبار العلماء مثل شهاب الدين بن أرسلان، وبرهان الدين الأنصاري، والشيخ شمس الدين القباقبي.

زاوية بدر الدين:
تنسب إلى بدر الدين بن محمد الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب، تقع في وادي النسور بظاهر القدس من الناحية الغربية، توفي بدر الدين سنة 650 هـ ودفن في زاويته، ثم خلفه فيها ابنه محمد، ثم عبد الحافظ بن محمد، ثم داود بن عبد الحافظ الذي كان من أصحاب الكرامات، ثم خلفه ابنه السيد أحمد الملقب بالكبريت الأحمر، لندرة وجود مثله في زمانه.
هذه هي المكانة الثقافية والعلمية المرموقة التي تمتعت بها القدس في العصرين الأيوبي والمملوكي، كغيرها من حواضر مصر والشام، إن لم تكن فاقتهن في ذلك الشرف، وسيظل التاريخ يحفظ للقدس ولأبنائها وعلمائها وطلبتها هذه الميزة التي تجعلها متألقة في قلوب ملايين العرب والمسلمين.

المراجع:
1.عبد المهدي، عبد الجليل حسن، المدارس في بيت المقدس في العصرين الأيوبي والمملوكي، مكتبة الأقصى، ج1 1981م، عمّان- الأردن.
2. عبد المهدي، عبد الجليل حسن، الحركة الفكرية في ظل المسجد الأقصى في العصرين الأيوبي والمملوكي، مكتبة الأقصى، 1980م، عمّان- الأردن.
3. الدباغ، مراد، بلادنا فلسطين، الديار المقدسية، ج1.
4. الحموي، ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق حسنين محمد ربيع، مطبعة دار الكتب، 1977م.
5. الحنبلي، مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، مكتبة المحتسب، 1973م، عمان- الأردن.

No comments:

Post a Comment

شارك برايك