Wednesday 23 February 2011

فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - القدس بين التبعية لمملكة دمشق والتبعية لمصر

المصدر: من كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - خليل عثامنة - الطبعة الأولى ص 121-124

كانت مدينة القدس تحت السيادة المباشرة للملك الأفضل بحكم تبعية فلسطين الإدارية لمملكة دمشق. وكان الأفضل أوكل أمور دولته إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري الشيباني، شقيق المؤرخ المشهور عز الدين ابن الأثير، بينما انشغل هو بملذاته وانغمس في اللهو تاركاً لوزيره كامل التصرف في شؤون المملكة. فأشار عليه الوزير ابن الأثير أن يتخلى عن القدس ويسلمها لأخيه العزيز ملك مصر بحجة أن مسؤوليته عن المدينة المقدسة ستكون باهظة التكاليف لما تحتاج إليه من مال ورجال، وأن خطوة كهذه ستؤدي إلى إرضاء غرور العزيز بعد أن ازدحم بلاطه في القاهرة بأمراء العساكر الصلاحية، الذين فارقوا الأفضل، والتجأوا إليه احتجاجاً على سوء معاملة الأخير لهم.لاقى تنازل الأفضل عن القدس الترحاب لدى العزيز، ووقع الأمر في قلبه موقع الشكر والمسرة. فأسرع إلى إرسال الأموال لتصرف على شؤون المدينة، وأمر بحمل الغلال والمؤن لسد حاجات أهلها ورخائهم. وجهز العساكر التي وصلت مصر لتعزيز حامية المدينة خوفاً من هجوم مفاجئ قد يشنه فرنجة الساحل عليها. لكن هذه الخطوة لم ترق لأعين الأمراء الصلاحية  الذين كانوا يتولون الشؤون المالية والإدارية لمدينة القدس، وخافوا من محاسبة العزيز لهم بسبب ما كانوا اختلسوه من أموال الأوقاف المحبوسة على المدينة.
وكان السلطان صلاح الدين أوقف ثلث خراج نابلس وناحيتها على تعمير بيت المقدس وتصريف الخدمات لأهلها. فاتصل هؤلاء الأمراء بالملك الأفضل يحثونه على التراجع عن قراره بالتنازل عن المدينة لأخيه، وتعهدوا له بأنهم سيعفونه من الأموال التي كان خصصها للصرف عليها، مؤكدين له أن ما يجبى من الأموال الموقوفة سيسد حاجة المدينة، إعمارها ونفقتها، وأن الأموال المخصصة لهل ستوفر على الخزينة المركزية. استجاب الملك الأفضل بالموافقة على ما اقترحه الأمراء، وتراجع عن قراره بتسليم القدس لأخيه العزيز. ومما شجعه على إلغاء التنازل أن العزيز كان أكرم بعض الأمراء الذين فارقوه، وحولوا عنه ولاءهم وطاعتهم. فكان التراجع عن هذه الخطوة سبباً في النفور الذي ساد العلاقة بين الأخوين. ومما زاد في إذكاء نار الوحشة بينهما ذلك الدور التحريضي الذي أداه أمراء العساكر الناصرية (مماليك صلاح الدين) ممن أبعدوا عن دمشق أو تركوها بسبب استئثار الوزير ضياء الدين ابن الأثير بالقرار، وبسبب تقديم الأمراء الجدد عليهم. وكان الملك العزيز قد بالغ في إكرامهم وتقديمهم على سائر قادة عسكره من الأمراء الأسدية (مماليك أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين)، الذين كانوا في مصر في جيشه. ولم يغفل العزيز في هذه الأثناء عن الخطر، إذ كان يخشى أن يؤدي ضعف أخيه الأفضل، واتكاله على وزيره وعلى مستشاريه، إلى ضياع البلاد واستيلاء الفرنجة عليها. فخرج على رأس جيش نحو دمشق لإقصاء أخيه عن ملكها.وكان أخذ في طريقه إلى دمشق في إعادة توزيع الإقطاعات في فلسطين على قادة عسكره وعلى مقربيه بعد أن صادرها من أيدي الأمراء القدامى الذين أقطعهم إياها أخوه. فلما علم الأفضل بتحرك أخيه، وبنيته أخذ دمشق، استنجد بعمه العادل الذي كان يقيم آنذاك بقلعة جعبر في الجزيرة، وبأخيه الظاهر غازي ملك حلب، وبكل من أمراء حماة وحمص وبعلبك، فاجتمعوا جميعاً لنصرته ناكرين على الملك العزيز إقدامه على هذه الخطوة غير المبررة. وبتأثير المكانة التي يتمتع بها الملك العادل عند ابني أخيه المتنازعين تم التوصل إلى تسوية بين الأخوين المتنافرين، جرى بموجبها تقسيم فلسطين بينهما على أن تكون مدينة القدس وما يتبعها من نواح وأعمال للعزيز، وتصبح طبرية وناحيتها والغور وأعماله تابعة لمملكة الأفضل في دمشق. ولما جرت التسوية قاد العزيز جيشه عائداً إلى مملكته في مصر في أوائل شعبان 590ﻫ/أوائل آب (أغسطس) 1194م.

لم تضع التسوية حداً للصراع الذي تفجر بين الأخوين، لأن الأمراء الصلاحيين، الذين هجروا الملك الأفضل وانضووا تحت لواء العزيز في مصر، ما فتئوا يحرضون العزيز على أخيه ويزينون له الاستيلاء على مملكة دمشق، حتى استطاعوا إقناعه بأن الأمراء الأسدية في عسكره يميلون إلى أخيه، وأنهم تواطأوا معه على تجريده من ملكه وإقصائه عن عرش مصر، وأن خير وسيلة لوضع حد لأذاهم وقطع دابرهم أن يستولي على دمشق ويصرف أخاه عن حكمه. وساهم توتر العلاقات بين ملك حلب، الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وبين عمه العادل، الذي آوى وحمى بعض الأمراء الخارجين على طاعته، في تشجيع الملك العزيز على غزو دمشق، إذ راسله الملك العادل وحثه على الإسراع في القدوم. فخرج العزيز بجيش مصر وخيم في الفوار على مشارف مدينة دمشق. في هذه المرحلة شرع الملك العادل في تحريك الخيوط من أجل تنفيذ خطة الاستيلاء على المملكة التي يبدو أنه كان أدارها في ذهنه. فاستغل حنكته وقديم خبرته بفئات الجيش وقطاعاته والحساسيات التي تحكم العلاقة فيما بينها، وأخذ يراسل الأمراء الأسدية في جيش العزيز مستغلاً تذمرهم من ميل الأخير إلى الأمراء الصلاحية الذين وفدوا إليه من دمشق، وصار يحثهم ويحرضهم على تركه والانضمام إلى طاعة الأفضل. وفي الوقت نفسه أخذ يبعث بالرسائل إلى ابن أخيه الملك العزيز يحذره مما يكيد له الأمراء الأسدية.
وسرعان ما انعكس تأثير رسائل التشكيك التي كان يرسلها الملك العادل على العلاقة بين العزيز والقادة الأسدية حتى أنهم كانوا يلاحظون تغيره من خلال قسمات وجهه. فقر رأيهم على الانسلاخ عن الجيش بعد أن استطاعوا أن يضموا إلى صفوفهم أمير أمراء العساكر الأكراد أبا الهيجاء السمين. فانفصل أبو الهيجاء يقود الأمراء الأسدية ومن يلوذ بهم من العساكر، إضافة إلى عساكر الأكراد المهرانية. وكانت هذه المجموعة تشكل أغلبية عساكر جيش العزيز. فلما علم العزيز بهذه الحركة الانفصالية أبدى الارتياح لرحيلهم عنه، وطوى معسكره في اليوم التالي عائداً إلى مصر. بعث أبو الهيجاء السمين رسولاً يعلم العادل برحيل العزيز، ويطلب منه اللحاق به لمنعه من الوصول إلى مصر وانتزاع الملك منه. فاتفق العادل والملك الأفضل على اقتسام مُلك مصر، على أن يكون للعادل الثلث، وللأفضل الثلثان. وعندما اجتمع العادل بأبي الهيجاء السمين زعيم المتمردين أشار عليه بالتريث. وكان موقفه راجعاً إلى تدبير آخر يخفيه في نفسه، كشفت عنه التطورات فيما بعد. فلما وصل المتحالفون إلى القدس عزلوا نائب الملك العزيز، وأعطيت نيابتها لأبي الهيجاء السمين، فرتب رجاله في إدارتها وإدارة الأعمال والنواحي التابعة لها. وانضم إلى حليفيه الأفضل والعادل، وتوجهوا جميعاً إلى مصر في إثر الملك العزيز، ونزلوا بلبيس. ويبدو أن الملك العادل لم يكن مطمئناً إلى الأمراء الأسدية، وخاف من مكرهم، فأرسل يطلب الاجتماع بالقاضي الفاضل الذي كان يقيم بالقاهرة، بحجة الاسترشاد والاستشارة، وهو في الحقيقة إنما يريد أن يرسل من خلاله رسالة إلى الملك العزيز بشأن وضع نهاية لهذه الأزمة. ولهذا السبب شجع العزيز القاضي الفاضل على مقابلة عمه الملك العادل فالتقيا واتفقا على الصلح. وكان العادل يخشى أن يتنكر الأفضل للاتفاق الذي أبرم بينهما إذا ما ظلت العساكر الأسدية موالية له، وإذا ما استطاع أخذ مصر بعد أن ينحي أخاه العزيز. لذلك حرص على أن يسرع في الصلح قبل أن تشتبك العساكر، ويحدث الحسم العسكري لمصلحة الأفضل، كما أنه أقنع العزيز بضرورة المصالحة مع الأمراء الأسدية واسترضائهم. وفيما يتعلق بالوضع بين الأخوين فقد اتفق على أن تعود القدس وكل أراضي فلسطين إلى الأفضل، وتكون مصر للعزيز. أما ما كان متعلقاً بالعادل نفسه فقد اتفق على أن يظل إقطاعه في مصر بتصرفه، وأن تتاح له الإقامة بها. وكانت غايته من ذلك أن يظل على صلة بالأسدية والأكراد الذين كانوا تمردوا على العزيز، كي يسهل عليه قيادهم واستخدامهم لخدمته وتحقيق أغراضه عندما يحين الوقت لذلك. وبعد أن أبرم الاتفاق عاد الأفضل إلى دمشق في محرم 592ﻫ.

No comments:

Post a Comment

شارك برايك