Friday 25 February 2011

القدس تستقطب الهجرة اليهودية إلى فلسطين

المصدر: كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي(خليل العثامنة)

القدس تستقطب الهجرة اليهودية إلى فلسطين

يورد الأديب اليهودي الأندلسي يهود الحريزي، الذي زار مدينة القدس سنة  1218، في إحدى مقاماته التي ألفها على غرار مقامات سلفه الأديب المصري أبو محمد القاسم الحريري (المتوفى سنة 1122) إثر نداء أو بيان أصدره السلطان صلاح الدين بعد تحرير مدينة القدس، يدعو فيه اليهود إلى القدوم والإقامة بالمدينة بعد أن كان الصليبيون جددوا الحظر عليهم أن يدخلوا أو يقيموا بها ونتيجة هذا النداء بدأ اليهود يتقاطرون إلى مدينة القدس ويقيمون بها لتتكون منهم بعد ذلك الطائفة اليهودية الفلسطينية وعلى الرغم من خلوا المصادر العربية الإسلامية والمصادر المسيحية اليهودية من أي ذكر أو حتى إشارة على مثل هذا المرسوم السلطاني فإن الباحثين والمستشرقين اليهود الذين اعتنوا بالموضوع الديموغرافي في فلسطين وأولوا موضوع الاستيطان اليهودي جلّ عنايتهم انقسموا بشأن إثبات أو نفي الصدقية التاريخية لهذا الادعاء الذي أورده الحريزي فرأى الباحث "الإسرائيلي" إلياهو أشتور (شتراوس) أنه على الرغم من عدم ذكر المصادر خبر هذا المرسوم فإن إمكانية أن يصدره السلطان هو إمكان وارد لآن هذا ينسجم مع السياسة التسامحية التي عرفت عن صلاح الذين ولأن سابقة كهذه كانت حدثت أيام عماد الدين الزنكي الذي استدعى مئات العائلات اليهودية لتوطينها في مدينة الرها بعد أن حررها من الصليبين سنة 1144. لكن زميله ومعاصره الباحث يهوشواع برافر الذي عنى بتاريخ فلسطين وفسرها بأنها مجرد تهيؤات دينية غبية تنسجم مع الرؤية الدينية النبوئية التي كانت ترى في تحرير صلاح الدين لمدينة القدس من قبضة الاحتلال الصليبي خطوة ممهدة ليوم الخلاص الذي طالما انتظره اليهود والذي يبشر بنهاية حياة الشتات التي يعانون جراءها وذهب مستشرق ثالث هو شلمو غويتين  إلى القول إن المرسوم الذي أدعاه الحريزي في كتابه هناك ما يدعمه ويؤكد في مخطوطات الجيزا التي عثر عليها في أحد كنس القاهرة وذلك اعتماداً على رسالة تعزية كتبها طبيب الملك العزيز عثمان ابن صلاح الدين بعث بها إلى أحد إخوانه المقيم بمدينة القدس وعزى فيها سبب  موت قريبه إلى عقوبة سماوية أنزلت به لأنه فضل الإقامة ببلد آخر غير مدينة القدس

وبمعزل عن هذه الاجتهادات التي ألبسها أصحاب لبوساً أكاديمياً يجب ألا نصرف ذهن القارئ عن حقيقة أساسية لا مراء فيها وهي خلو المصادر من أي أشارة إلى هذا المرسوم الوهمي الذي لم يتعدى كونه رؤية دينية غبية، وإن هذا الادعاء وهم ذمة للمسلمين كي يعمروا مدينة القدس ويسكنوها أو يحموا مقدساتها وكان له في اللاجئين الفلسطينيين المقادسة الذين نزحوا إلى دمشق واستقروا بها ما يغنيه عن دعوة أي طائفة أخرى من المسلمين أو أهل الذمة وكان له في عربان فلسطين مندوحة من غيرهم من أهل الذمة فلو لم يكن في قدرته أن يكتفي ببطون العرب في القضاء الفلسطيني كآل جحي وآل عقبة وآل مهدي في منطقة مرج ابن عامر ومرتفعات جنين كبني حارثه وبني بكر والعمريين أو عربان منطقة نابلس كآل الجيوسي أو عربان الجليل كبني  بشارة وآل الكابولي لكن له كفاية من الكلابيين والخفاجيين في شمالي وادي الأردن فضلا عن الألوف المؤلفة من الأسر في قبائل الأكراد والتركمان المسلمين ممن ملؤوا الفراغ الديموغرافي  الذي أحدثه رحيل الفرنجة عن فلسطين بعد تحريرها أيام بيبرس وقلاوون والأشراف خليل

ومهما يكن من أمر فقد شهدت السنوات التي تلت الفتح الصلاحي لمدينة القدس وجوداً لطائفة يهودية في المدينة دل عليه ما كتبه الحجاج اليهود وغير اليهود الذين زاروا الديار المقدسة فعندما زار يهودا الحريزي المدينة سنة 1218، تحدث عن ثلاث طوائف يهودية هي يهود مغربيون ويهود فرنسيون ويهود من عسقلان لكن التوتر الذي ساد المدينة عندما أمر الملك المعظم عيسى بهدم أسوار القدس وتحصيناتها حدا أهالي المدينة على النزوح عنها وانعكاس ذلك بطبيعة الحال على الطائفة اليهودية الصغيرة وقد انتهى وجودها نهائياً سنة 1229 عندما سلم الملك الكامل المدينة للفرنجة الذين جددوا الحظر الذي كان مطبقا على اليهود لمنع دخولهم المدينة وسكناها فعاد حال اليهود فيها إلى ما كان عليه أيام الحكم الصليبي قبل التحرير الصلاحي واستمر ذلك حتى إلى ما بعد الغزو المغولي للشام وفلسطين سنة 1260. وعندما زار الحاخام موشيه بن نحمان (الرمبان) مدينة القدس سنة 1267، بعد ربع قرن من طرد الصليبين منها على يد الخوارزمية أشار في رسائله التي  بعث بها إلى القدس إلى الخراب العام الذي أصاب المدينة وإلى النقص الهائل في عدد سكانها عامة إذ لم يزد عددهم على 2000 نسمة من المسلمين وبضع مئات من المسيحيين بينما خلت تماما من اليهود ولم يكن فيها إلا أخوان من اليهود كانا يعملان في دباغة الجلود (وهي المهنة التي كان يتقنها اليهود من دون غيرهم وهذا ما دعا إلى بقائهم فيها) وعلى الرغم من الجهود التي بذلها الحاخام لتشجيع غيره من اليهود على الهجرة إلى القدس فأنه فشل فشلاً ذريعاً في مهمته ولم ينضم إليه أحد من المهاجرين الأمر الذي اضطره إلى تركها والانتقال إلى مدينة عكا حيث أسس فيها كُتّابه ( المدرسة الدينية) وأخذ يلقن فيه دروسه ومواعظه في هذه الفترة صدر عن بعض المرجعيات الدينية اليهودية فتاوى تحث اليهود على عدم الهجرة إلى فلسطين بل تدعو من فيها من اليهود إلى النزوح عنها بحجة أن إتمام الفرائض الدينية لا يمكن أن يسير على الوجه الصحيح بسبب قلة العلماء وصعوبة العيش وخطورة الإقامة بها ويبدو أن هذه التحقيقات ساهمت إلى حد كبير في غياب طائفة يهودية فلسطينية طوال القرن الثالث عشر واستهل القرن الرابع عشر ووضع الطائفة على حاله بالنسبة إلى قلة أعدادها بل إلى ندرة وجودها لقلة عدد من فيها من اليهود وانتقل للإقامة بمدينة بيسان  وبعد ذلك بعشرين عاما أشار
أحد الحجاج المسيحين الألمان في مذكراته إلى أنه استخدم في أثناء تجوله في مدينة القدس ترجماناً من اليهود وورد في شهادة حاج آخر إيطالياً وجود بعض أدلاء السياحة اليهودية في المدينة وصرح حاج إنكليزي وصل سنة 1345أنه رأى بعض العائلات اليهودية التي تسكن المغاور عند سفوح وادي جهنم لكن هذه الشهادات على أهميتها لا ترقى لتكون دليلاً على وجود طائفة يهودية في مدينة القدس تصل إلى مستوى طائفة جديرة بهذه الصفة واقتصر وجودها على سكان الكهوف مثلهم في ذلك مثل الرهبان والنساك النصارى ومنذ مطلع القرن الخامس عشر حدث انتعاش في حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين ولو أنها كانت متواضعة وكان منطلق هذه الهجرة نابعاً من دوافع نبوئية مسيحية غذتها موجات الاضطهاد الديني الذي تعرضت له الطوائف اليهودية في أوربا الوسطى وخصوصاً في المقاطعات الألمانية

والاعتقاد الذي ساد أوساط الطائفة اليهودية في الأندلس عن قرب ظهور المسيح المنتظر لكن هذه الموجة لم تنطلق انطلاقا انسيابيا حرا بسبب ما اعترضها  من عوائق حدت زخمها فمنذ الربع الأول من القرن الخامس عشر صدرت الأوامر بمنع حمل المسافرين اليهود في  سفن الأساطيل الإيطالية وذلك بسبب ما أشيع عن نية اليهود السيطرة على القبر المعروف بقبر داود وأنهم كانوا وراء مصادرة أرض كانت في ملكية دير الفرانسيسكان في مدينة القدس وكانت قطعة الأرض هذه ذات قداسة خاصة عند المسيحيين ولذا أقيمت عليها الكنيسة التي تحمل اسم الروح القدس لاعتقاد المسيحيين لأن روح القدس حلت على هذه البقعة التي مازالت تحمل اسم (بقعة الوجبة الأخيرة) أو الCoenaculum) ) وعلى خلفية هذه الشائعة صدر مرسوم بتأثير منظمة الفرانسيسكان في جمهورية البندقية سنة 1428-1429، يحرم نقل اليهود في سفن أسطول البندقية لكن سرعان ما ألغي هذا الحظر لأنه ثبت أن كنيسة الروح القدس مازالت في الفرانسيسكان وعندما انتزعت ملكية قبر داود من أيديهم سنة 1452، وما تبع ذلك من هدم كنيسة الروح القدس سنة 1468 جدد الحظر الذي يمنع نقل اليهود في السفن وزاد الطين بله تفجر ما عرفت بقرية الدم سنة 1457،الأمر الذي زاد في تعقيد سفر اليهود بالطرق العادية إلى فلسطين فصارت الرحلة إليها شديدة الصعوبة ويلاحظ  أن الحظر هذا ظل ساري المفعول لعشرة أعوام بعد ذلك إذ يتحدث أحد الحجاج اليهود في رسالة بعث بها سنة 1488، عن إلغائه فكان هذا سبباً في فتح باب الهجرة الحرة إلى فلسطين وكان هذا قد تزامن مع طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا الأمر الذي أعطى هجرة اليهود دفعة قوية وفي رسالة للحاج إسحاق لطيف الأنكوني  ( مقاطعة أنكونا /an oneالإيطالية) ترجع إلى سنة 1458، يتحدث عن وجود طائفة يهودية في القدس مكونة من 150 عائلة ( معدل أفراد الأسرة النووية  الواحدة في ذلك الوقت كان يتراوح بين 7،2و5أفراد للعائلة الواحدة)لكن الأرقام المتعلقة بعدد أفراد الطائفة كانت تختلف بين تقرير وآخر وعندما وصل الحاخام مشولام دو فولتور( (de voltora) إلى القدس سنة 1418، ذكر أن في المدينة 10 آلاف عائلة من المسلمين وأن عائلات اليهود لا تزيد على 250عائلة أما التقرير الذي كتبه الراهب الألماني فيلكس فابري عندما زار القدس سنة 1480وسنة 1483، فورد فيه وجود ما يقارب من 500عائلة ثم تدنى هذا العدد فيما كتبه الحاخام عوفاديا من برتنورا سنة 1488، إلى 70عائلة فقط من اليهود بين 4000عائلة مسلمة بينما ذكر تلميذه أن عدد العائلات اليهودية يصل إلى 2000 عائلة.

شهد القرن السادس عشر ازدياداً ملحوظاً في عدد أفراد الطائفة اليهودية مع الميل إلى استقرار الأعداد في الربع الأول من هذا القرن فبلغ عدد العائلات اليهودية 300 عائلة في سنة 1521، بالإضافة إلى العزاب أو الأرامل الذين بلغ عددهم 700 فرد.
دلت الإحصاءات الرسمية العثمانية التي أجريت في الفترة 1525-1539، على أن أعداد اليهود في القدس تراوحت بين 1000و1500نسمة توزعوا على نحو 200عائلة

وإذا كانت الطائفة اليهودية في مدينة القدس إبان الدولة الأيوبية ودولة سلاطين المماليك هو التعبير عن الوجود اليهودي في فلسطين عامة فإن هذه الطائفة فقدت صفتها التمثيلية لكل الوجود اليهودي في فلسطين بعد أن تخلت عن مكان الصدارة الذي كانت تتبوأه على مدى القرون الثلاثة الماضية وصارت مدينة صفد في الربع الأخير في عهد دولة المماليك وعلى وجه التحديد منذ سقوط غرناطة آخر المماليك الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية سنة 1492حتى الفتح العثماني سنة 1516، قطب الرحى الذي أجتذب هجرة يهود إسبانيا هربا من الفتنة الدينية التي تعرضوا لها فبعد أن كان الوجود اليهودي في هذه المدينة نادراً طوال الفترة المملوكية أخذت أعدادهم في الازدياد حتى بلغت نحو ثلث سكان المدينة العرب إذ أظهر الإحصاء السكاني الأول الذي أجرته الدولة العثمانية سنة 1526وجوداً ما يقارب 1160نسمة من اليهود كانوا موزعين على أكثر من 230 أسرة وأظهرت السجلات مواطنهم الأصلية التي هاجروا منها وهي: كتالونيا، أراغون، كاستيليا، سردينيا، صقلية، إيطاليا المجر/ألمانية بالإضافة إلى المغرب وتدل قائمة المواطن الواردة بكل وضوح على تأثير هذه الهجرة بطرد العرب من بلاد الأندلس ولم يقتصر الوجود اليهودي على مدينة صفد فقط بل أظهر المسح الديموغرافي العثماني أيضاً وجود يهود آخرين  في بعض القرى التابعة لمملكة صفد مثل عين الزيتون بيريا كفر عنان البقيعة شفا عمرو كفر كنا وهي قرى مشتركة مع العرب من مسلمين ومسحيين  

No comments:

Post a Comment

شارك برايك