Wednesday 23 February 2011

فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - انتصار حطين والطريق إلى القدس

المصدر: من كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - خليل عثامنة - الطبعة الأولى ص 90 - 100

عندما وصل نبأ قطع صلاح الدين نهر الأردن غرباً ونزوله إلى الصنبرة، دعا الملك اللاتيني غي دو لوزينيان مجلس البارونات إلى الانعقاد في المقر الملكي في مدينة عكا، وكان الكونت ريموند الثالث، الذي كان حديث عهد بمصالحة الملك، أول المتحدثين. وكان رأيه أن يتبع جيش الفرنجة خطة دفاعية، ولا يبادر إلى الهجوم بسبب عدم جدواه في مثل ذلك الصيف القائظ. وقد أن صمود الفرنجة أمام هجوم يشنه صلاح الدين سيؤدي بالضرورة إلى فشل الخطة الإسلامية، لأن صلاح الدين لا يستطيع أن يحتفظ بكامل قواته مرابطة أمام خطوط الدفاع الفرنجية مدة طويلة في تلك المنطقة الوعرة الجافة، وستضطره حرارة الطقس إلى التراجع. وأضاف أن إرجاء الاشتباك مع المسلمين سيمكّن الإمدادات العسكرية، التي وعد أمير أنطاكية إرسالها، من الوصول إلى ميدان المعركة في الوقت المناسب. لاقى رأي الكونت ريموند هوى في نفس قادة العساكر ومالوا إلى تأييده، بينما عارضه رينالد دو شاتيون، أمير الكرك، وجيرار دو ردفوت، أمير فرسان الهيكل، اللذان اتهما الكونت ريموند الثالث بالجبن وببيع نفسه للمسلمين. وكان الملك  غي دو لوزينيان رجلاً إمَّعة يقبل آخر رأي يسمعه، فقبل رأي هذين الأميرين، وأمر الجيش بمهاجمة طبرية. تحرك الجيش الفرنجي ووصل إلى صفورية بعد ظهر يوم 2 تموز/يوليو، وعسكر هناك، المياه وتتسع المراعي ويتميز الموقع بتضاريس طبيعية مريحة. وما إن حط الجيش رحاله حتى وصل رسول الكونتيسة، صاحبة طبرية وزوجة ريموند الثالث أمير طرابلس، يحمل بشارة سقوط طبرية في يد صلاح الدين. عقد الملك اجتماعاً طارئاً للبارونات للتشاور في الوضع، فأبدى قادة الفرسان تعاطفهم مع الأميرة المحاصرة في قلعتها، بينما أخذ أبناؤها الذين كانوا مع الجيش يتوسلون ودموعهم منهمرة لإنقاذ والدتهم، وبهذا استقطبوا عطف أغلبية الحضور. ومرة أخرى، أعاد ريموند الثالث التشديد على رأيه الذي سبق أن طرحه في عكا، وأكد أنه مستعد للتضحية بطبرية في سبيل إنقاذ الملكة، فقبل المجلس رأيه وتقرر البقاء في معسكر صفورية، وعاد أعضاء المجلس كل إلى مخدعه. وما هي إلا سويعة حتى عاد أمير فرسان الهيكل إلى خيمة الملك ليحتج على قبوله برأي ريموند الثالث ويبدي استهجانه لاستجابة أركان الملك لرأي رجل خائن مثله. ومرة أخرى اقتنع الملك برأيه، وأمر  المنادين بأن يعلنوا رحيل الجيش عندما يطلع الفجر من أجل المسير إلى طبرية.

بُلَّغ صلاح الدين قرار الملك بالرحيل، وعرف الطريق التي سيسلكها الفرنجة في سيرهم نحو طبرية. وفي هذا الوقت كان صلاح الدين يعسكر قريباً من قرية كفر سبت  التي تبعد نحو خمسة أميال إلى الجنوب  الغربي من قرية حطين. وضرب خيامه في هذا الموقع الغني بالمراعي وينابيع الماء. ولما وصل جيش الفرنجة بعد ظهر يوم 3 تموز/يوليو، وجد صلاح الدين معسكراً أمامه، فنزل الهضبة عند حافة المنحدر، وكن قرنا حطين وراءه، وهما تلتان صخريتان ترتفعان نحو مئة قدم عن سطح البحر. وكانت البقعة التي خيم فيها الرنجة خالية من الماء أو الآبار، ويفصل جيش المسلمين بينهم وبين ماء البحيرة. وكان الطقس حاراً جداً ورطوبة الجو عالية والهواء راكداً، فلم تغب شمس ذلك اليوم حتى كانت أكباد جنود الفرنجة تتلظى من شدة العطش، وصاروا يبحثون عن الماء ولا ماء، فباتوا الليل عطاشى. وفجر اليوم التالي استكمل تطويق معسكر الفرنجة، وأمر السلطان بإحراق الهشيم والحشائش اليابسة المحيطة بهم فما زادتهم النار والدخان إلا رهقاً. وعندما ذر الصباح ضياءه بدأ المسلمون بالإغارة على أطراف المعسكر، يرشقون الفرنجة بالسهام من بعيد، وتتربص جماعة منهم بكل من يحاول اللحاق بالمهاجمين.

ظل جيش المسلمين على هذا المنوال من الكر والفر، بينما عزائم الفرنجة تخور ساعة تلو الأخرى. وفي محاولة يائسة من فرسان الفرنجة لاختراق الطوق المضروب عليهم، خرج الكونت ريموند الثالث بفرسانه، فأفرج المسلمون لهم حتى أصبحوا خارج الطوق، ثم أغلقوا تلك الفجوة، فلم يتمكن  الخيالة من العودة إلى أصحابهم ولم يكن أمامهم من مخرج إلا الانسحاب من المعركة والنجاة بأنفسهم. وكما فعل ريموند الثالث وفرسانه فعل أيضاً أمير يُبْنى باليان بن بارزان وأمير صيدا رينالد دو شاتيون، والمسلمون يفرجون لهم فيتركون الميدان ويولون الأدبار نحو بلادهم. ثم ما لبثت مقاومة الفرنجة أن انهارت واستسلم من بقي منهم في قيد الحياة، وشرع المسلمون في إحصاء الأسرى وتصنيفهم. وكان أسقف مدينة عكا بين القتلى، واستولى المسلمون على الصليب المقدس الذي كان معه. ولما وصل جند المسلمين إلى خيمة الملك وجدوه طريحاً على الأرض لا يستطيع الحراك بعد أن خارت قواه، ثم اقتيد هو وكبار القادة الأسرى إلى خيمة السلطان صلاح الدين الذي قدم لهم الإكرام الذي يليق بمراتبهم. وكان بين الأسرى أرناط، أمير الكرك، الذي سبق أن نذر السلطان دمه بعد حادثة اعتدائه على القافلة الآتية من مصر إلى دمشق. أبقى السلطان على حياة كل من الملك الأسير والأسرى من النبلاء والأمراء، لكن أمر بقتل أمراء أخوية فرسان الهيكل (الداوية) وأخوية الإسبتارية، بينما قتل بنفسه أمير الكرك، رينالد دو شاتيون، براً بيمينه ووفاء بنذره قتل هذا الأمير المتغطرس الغادر.

قبل حطين تعرض الفرنجة لكثير من الهزائم، وذاق بعض ملوكهم وكبار أمرائهم ونبلائهم ذل الأسر، لكن لم يسبق أن محي جيشهم أو لاقى الخسائر البشرية التي لاقها في حطين. وكثيراً ما زعماء المسلمين الذين سجلوا انتصارات عسكرية على الفرنجة ينالون المجد والشهرة، لكن لم يحدث أن حاز أي منهم ما حازه السلطان صلاح الدين من المجد وبعد الصيت، إذ أضحى بعد معركة حطين الزعيم الذي لا يجارى، بل سيد المسلمين وبطل الإسلام بلا منازع. وكان حجم الخسائر التي مني بها الفرنجة من الفداحة بحيث يصعب أن تعوض، فمن جيش جرار قوامه 12000 مقاتل بين فارس وراجل لم ينج إلا نحو 1000 فقط، هم الذين استطاعوا أن يفروا من ساحة المعركة بعد أن سهل لهم المقاتلون المسلمون، وعن قصد، عملية الفرار. أما الجند الباقون فإما أفناهم السيف وإما أدمى معاصمهم القيد واقتيدوا أسرى إلى دمشق ليباعوا عبيداً في أسواقها.

مسيرة التحريرفي صبيحة يوم الأحد الموافق فيه 5 تموز/يوليو 1187، غداة الانتصار في حطين، عاد صلاح الدين إلى طبرية المحترقة حيث التجأت صاحبتها الكونتيسة زوجة الكونت ريموند، أمير طرابلس، مع الحامية الفرنجية داخل أسوار القلعة. لكنها أيقنت أن أي محاولة للمقاومة ستكون عديمة الجدوى في ظل هزيمة الفرنجة في حطين، ولذلك رحبت بفكرة الاستسلام التي ضمنت لها ولمن معها الخروج الآمن من القلعة والانضمام إلى زوجها، أمير طرابلس، الذي كان نجا من المعركة. قبل السلطان صلاح الدين بهذا الشرط الذي أصبح حجر الزاوية في سياسته لتحرير باقي الأجزاء في فلسطين. وصار نموذج استسلام الفرنجة في طبرية مقابل ضمان أنفسهم وأموالهم والانضمام إلى إخوانهم الفرنجة خارج فلسطين، هو النموذج الذي اتبع في أثناء سير عمليات التحرير. كانت طبرية عاصمة إمارة الجليل الفرنجية، وهي أول إمارة إقطاعية أنشأها الصليبيون على أرض فلسطين، والتي كانت منذ نشوئها تقاسم حكام المسلمين نصف  المداخيل السنوية للمناطق شرقي نهر الأردن في: البلقاء، والصلت، وعجلون، وإربد، وهضبة الجولان حتى حدود منطقة حوران إلى المشرق. ولما تم الاتفاق على التسليم بين الأميرة والسلطان خرجت معززة مكرمة إلى إمارة طرابلس مصحوبة بكوكبة من فرسان المسلمين.

وفي اليوم نفسه الذي سقطت طبرية سقطت أيضاً مدينة الناصرة التي أوكل أمرها إلى القائد مظفر الدين كوكبري، أمير حران، الذي كان أدى دوراً مهماً في استيلاء صلاح الدين على منطقة الجزيرة الفراتية. ولم تكن الناصرة في ذلك الوقت سوى قرية صغيرة لا أسوار لها، فالتجأ أهلها، وكانوا في معظمهم من رجال الإكليروس اللاتين، إلى كنيسة البشارة الحصينة واحتموا بأسوارها، لكن التحصينات لم تصمد أما هجوم  المسلمين فاقتحموها بالقوة وقتلوا من كان بداخلها.

من طبرية أصدر السلطان صلاح الدين أمراً إلى تقي الدين، ابن أخيه، بالتوجه نحو عكا، وذلك في 7 تموز/يوليو. ولما وصلت كتائبه إلى شفا عمرو أرسل حاكم مدينة عكا، جوسلين، وفداً للتفاوض في شأن تسليم المدينة. وكانت عكا على ما يبدو خالية من فرسان الفرنجة ومن القادة العسكريين، ولذلك تولى كبار التجار فيها مهمة التفاوض مع المسلمين، وحمل أحدهم مفاتيح المدينة وسلمها للأمير تقي الدين. ويبدو أن هذا القرار لم يعجب سكانها، فجرت اضطرابات تعبيراً عن احتجاج الأهالي، أحرق في أثناءها بعض أحياء المدينة. قدم السلطان صلاح الدين إلى مدينة عكا بعد استنجاد تقي الدين به، خير السلطان صلاح الدين أهل عكا بين الخروج الآمن من المدينة وبين البقاء فيها مع ضمان أرواحهم وأموالهم في مقابل دفع الجزية وفقاً لأحكام الإسلام في أهل الذمة. فضل المسيحيون الأوروبيون الخروج الآمن، بينما اختار المسيحيون العرب الأصليون أبناء البلاد البقاء في وطنهم. وبدأ الفرنجة مغادرة المدينة حاملين معهم أمتعتهم. ثم سمح صلاح الدين لجنوده بدخول  المدينة، فأسرع كل منهم في ركز رمحه على دار أو دكان أو مخزن أو حديقة ليثبت بذلك حقه في الامتلاك، كما كانت الأعراف المتبعة في ذلك الوقت عند الفرنجة (وهو الأمر نفسه الذي فعله الفرنجة قبل ما يقرب من قرن عندما اقتحموا مدن المسلمين في فلسطين وغيرها).

مكث صلاح الدين في عكا أياماً معدودة يرتب أمورها، بينما كانت كتائب أخرى من عسكره تنشط في الاستيلاء على مواقع وبلدات أخرى في منطقتي الجليل والساحل انطلاقاً من معسكره الرئيسي في تل الفخار على مقربة من عكا. وفي هذا الصدد فإن المصادر العربية تزدحم بالمعلومات المتعلقة بسير العمليات العسكرية، لكنها لا تعطينا تسلسلاً زمنياً دقيقاً عن ترتيب خضوع البلدات والحصون لسيطرة قواته. إن هذه التقارير تكشف بوضوح أن صلاح الدين حاول الإسراع في استغلال الذهول الذي أصاب القيادة الفرنجية بعد هزيمة حطين للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين حيث سنحت الفرصة لذلك من دون أن يتقيد بخطة عسكرية مدروسة. ويبدو أنه كان مدركاً أن إطالة المدة اللازمة لاستكمال تحرير كل أرجاء فلسطين قد تأتي بنتائج غير محمودة، لأنها ربما تعطي العدو فرصة لالتقاط الأنفاس يتمكن بواسطتها من تعزيز قدرته على الصمود أمام الهجمة الإسلامية. كما انه استغل كل بادرة للاستسلام أبداها الفرنجة، وأظهر قدراً كبيراً من التساهل معهم في منحهم الأمان والخروج بأنفسهم وأمتعتهم وأموالهم خارج فلسطين. وهكذا تمكن من السيطرة على عشرات الحصون والبلدات والمدن دون قتال.

ولما تكامل اجتماع عساكر صلاح الدين في المعسكر الذي ضربه على مشارف عكا، انطلقت عملية تحرير باقي أجزاء فلسطين. وتبين مراجعة أخبار الفتوحات، كما وردت في المصادر، صورة لسير عمليات التحرير التي انطلقت من عكا.

لقد انقسمت قوات التحرير إلى أربعة أرتال، وشكل الجيش المصري الذي قاده الملك العادل رتلاً خامساً.(1) كان الرتل الأول يتكون من قوات سريعة الحركة عمادها مقاتلون من القبائل العربية وقبائل التركمان. وكان عناصر هذه الوحدات في معظمهم من المتطوعين لا من الجنود النظاميين. اجتاح هذا الرتل المنطقة  الساحلية الممتدة من حيفا حتى يافا، وشمل منطقتي اللد والرملة وميناءي قيسارية وأرسوف.

(2) توجه الرتل الثاني نحو مناطق الجليل الشرقي، ثم اتجه جنوباً نحو جبال السامرة واجتاح في طريقه الأجزاء الغربية لمرج ابن عامر. كان قائد هذا الرتل الأمير حسام الدين عمر بن لاجين، ابن أخت صلاح الدين. وكان فيه القائد مظفر الدين كوكبري الذي أوكل إليه احتلال الناصرة ومنطقتها وخصوصاً صفورية، التي كانت قبل حطين معسكر الفرنجة الرئيسي. تحرك كوكبري من الناصرة نحو سهل المرج الممتد بين جبل الطور (طابور) واللجون، واستولى على الجون والفولة وزرعين ودبورية. وكانت الفولة (قريبة من موقع العفولة اليوم) حصناً مهماً لفرسان الهيكل. ثم تحرك نحو نابلس، وكانت مدينة مختلطة يعيش فيها الفرنجة والعرب جنباً إلى جنب. فاستولوا على قلعة المدينة التي لجأ إليها المستوطنون الفرنجة.

(3) تقدم الرتل الثالث جنوبي جبل الطور على الطريق إلى الفولة، حيث اتجه من هنا شرقاً عبر المرج الممتد بين جبل الطور وحصن كوكب الهوا نحو غور الأردن، مخلفاً وراءه حصني عفربلا وكوكب الهوا التابعين لفرسان الإسبتارية. ظلت هذه المنطقة جيباً فرنجياً تأخر احتلاله إلى ما بعد السيطرة على أجزاء فلسطين كافة. وبعد أن استولت هذه القوة على بيسان توجهت جنوباً إلى أريحا، ثم اتجهت غرباً نحو القدس مارة بقلعة الخان الأحمر التابعة للداوية (فرسان الهيكل).

(4) كان الرتل الرابع هو الرتل الذي قاده السلطان صلاح الدين بنفسه نحو المناطق الواقعة إلى الشمال من عكا وناطق الجليل الغربي المحاذية للبنان. وكان بعض القلاع والمواقع في هذه المنطقة قد سقط في يد المسلمين في أثناء الهجوم الأول الذي استهدف عكا، مثل قلعتي الزيب ومنوات شرقي وادي القرين، وقلعة معليا، التابعة لملك مملكة القدس اللاتينية، وأخيراً قلعة اسكندرونة التي يصفها ابن جبير بأنها بلدة حصينة ذات أسوار، وتقع بين رأس الناقورة والرأس الأبيض على الطريق إلى صور. وفي هذه الجهة ظهرت بوادر المقاومة الفرنجية حين اصطدمت قوات صلاح الدين التي يقودها ابن أخيه، تقي الدين، بمقاومة الحامية الفرنجية المرابطة في حصن تبنين إلى الجنوب الشرقي من مرفأ صور. ولم يستسلم هذا الحصن إلا بعد أن وصل إليه صلاح الدين وأردف قوات تقي الدين التي كانت تحاصره. بعد تبنين ترك صلاح الحصون الفرنجية في الجنوب اللبناني وقصد مدن الساحل اللبناني، بعد أن ترك مدينة صور وأجّل مهاجمتها، فسقطت صيدا، ثم جبيل، ثم بيروت، لتتوقف الفتوحات في هذه المرحلة عند حدود إمارة طرابلس الفرنجية مع مملكة القدس.

الطريق إلى بيت المقدسكان في استطاعة صلاح الدين بعد انهيار المقاومة الفرنجية في الشريط الساحلي اللبناني نقل معركة التحرير إلى إمارتي طرابلس وأنطاكية الفرنجيتين، وكذلك الاستعانة بإمدادات عسكرية تأتيه من منطقة حلب المجاورة. لكنه ترك هذا الخيار على الرغم من الميزات العسكرية المتوفرة فيه لمصلحته، وفضل الخيار الأصعب، إذ تغلب في ذهنه العامل الأيديولوجي على العامل البراغماتي، فقرر الاستدارة نحو الجنوب والعودة إلى أرض المعركة في فلسطين حيث ينتظره تحرير مدينة القدس. وباتخاذه خطوة كهذه فإنه يستطيع أن يبرهن للأمة الإسلامية ولرموزها وقادتها السياسيين والروحيين أنه القائد الأجدر بحمل راية الجهاد، وأنه الأحق بنيل تاج تحرير مدينة القدس وتخليصها من ربقة الكفر. أما المناطق الشامية، التي لا تزال في أيدي الفرنجة في سواحل سورية أو في غور الأردن وجبال الجليل، فيمكنها انتظار تحريرها إلى ما بعد تحرير القدس. ترك صلاح الدين ساحل لبنان بعد أن سقطت بيروت واتجه جنوباً نحو فلسطين، ولم يتوقف إلا عند أسوار مدينة عسقلان في 23 آب/أغسطس 1187. فاحتلال هذه المدينة الساحلية الحصينة، التي يمكن أن تصبح بوابة الفرنجة الوحيدة إلى أرض فلسطين بعد أن سقطت موانئ عكا وحيفا وقيسارية وأرسوف ويافا، كان احتلالاً لابد منه قبل استعادة مدينة القدس، لأنها، فضلاً عن كونها بوابة على البحر، ستظل أيضاً عائقاً قد يعترض طريق وصول عساكر مصر للمساعدة في تحرير القدس، وخصوصاً أن العساكر الذين معه من العراق وسورية قد أرهقتهم في معظمهم معارك متواصلة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقد آن الأوان أن يعطوا نصيبهم من الراحة، وينظر في أمر عودتهم إلى بلادهم بعد طول غياب.

يتبين من بعض الإشارات الواردة في المصادر أن السيطرة الإسلامية على الساحل الفلسطيني لم تكن مكتملة قبل توجه صلاح الدين إلى مدينة عسقلان. عندما قرر صلاح الدين الاستيلاء على عسقلان اصطحب معه الملك الأسير دو لوزينيان ومقدم الداوية (فرسان الهيكل) ليساهما في إقناع أهل المدينة بالاستسلام من غير مقاومة. فقد كانت عسقلان بالإضافة إلى كونها من المدن التابعة للمملكة، جزءاً من أملاك التاج، آلت ملكيتها إلى  غي دو لوزينيان حين كان أميراً في يافا، إذ كانت جزءاً من إقطاعه. وكان صلاح الدين ينوي عقد صفقة: إطلاق الملك من الأسر في مقابل المدينة. لكن الطبقة البرجوازية من فرنجة المدينة رفضت هذا العرض، فبدأت المجانيق الإسلامية تمطر المدينة المحاصرة بالحجارة. وانهارت المقاومة بعد أسبوعين عندما أدرك المحاصرون أن بعض أجزاء السور على وشك السقوط، وعندها بدأوا التفاوض في شأن الاستسلام، فاتفق على إعطائهم مهلة أربعين يوماً يتركون خلالها المدينة. وعلى هامش هذه الاتفاقية تقرر إطلاق الملك الأسير. وفي 4 أيلول/سبتمبر 1187، عادت عسقلان إلى حظيرة الإسلام بعد أن مضى على احتلالها 35 عاماً.

انتدب السلطان الفقيه جمال الدين أبو محمد عبد الله بن عمر الدمشقي لولاية عسقلان وبناء مؤسساتها الإدارية والدينية. وبعد فتحها لم يبق في أيدي الفرنجة من فلسطين إلا مدينة القدس، ومن الساحل إلا صور. فكتب السلطان رسالة إلى بعض أهله مبشراً بفتحها يقول: (ونازلنا عسقلان.... ونصبت أعلام التوحيد على أبراجها وأسوارها، وعمرت بالمسلمين وخلت من مشركيها وكفارها وكبر المؤذنون في أقطارها. ولم يبق في الساحل من جبيل إلى أوائل حدود مصر سوى القدس وصور، والعزم مصمم على قصد القدس فالله يسهّله ويعجله فإذا يسّر الله تعالى فتح القدس ملنا إلى صور والسلام).

تحرير مدينة القدسفي يوم الجمعة الواقع فيه 27 رجب 583ﻫ/2 تشرين الأول (أكتوبر)1187م، دخل السلطان صلاح الدين قلعة مدينة القدس بعد أن دان له أهلها من الفرنجة بالخضوع والاستسلام. وبهذا الفتح انطوت 88 عاماً أمضتها الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى في أسر الفرنجة الغزاة. وكان يوم دخول صلاح الدين رحاب المسجد الأقصى خاتمة عقود الجهاد في سبيل التحرير، حمل رايته المخلصون من قادة الأمة الإسلامية، كان أبرزهم: قطب الدين مودود، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وآخرهم السلطان صلاح الدين الذي توج مسيرة الجهاد الطويلة بالنصر والتحرير. فاستحق بهذا الإنجاز دور المديح التي طوق بها الكاتب عماد الدين الأصفهاني عنقه حين قال:

 فلا يستحق القدس غيرك في الورى            فأنت الـذي من دونــهم فتــح القدســـا
فطـــــهرته من رجســــهم بدمائـهــــم           فأذهبت بالرجس الذي ذهب الرجْسـا
وقد شـاع فـي الآفـاق عنـك بشــارة             بأن أذان القـــدس قـد أبطـــل النقســـا

بعد أن استسلمت عسقلان توجه صلاح الدين نحو مدينة القدس وحاصرها وشرع في مهاجمتها في 20أيلول/سبتمبر. ولما اشتد عليها الحصار ولم يجد أهلها من يعينهم على الصمود، اضطروا إلى قبول شروط التسليم التي فرضها عليهم السلطان، والتي تقضي بأن يدفع كل فرنجي بالغ عشرة دنانير فدية عن نفسه، وتدفع المرأة خمسة دنانير، ويدفع الطفل ديناراً (وقيل دينارين). أما الفقراء والمعدمون منهم فوافق السلطان على أن يدفع عنهم الأمير باليان بن بارزان مبلغاً مقطوعاً مقداره 30000 دينار فدية عن 7000 شخص، وأمهل الفرنجة 40 يوماً يؤدون خلالها الفدية المطلوبة، وإذا مضت المهلة ولم يؤد الرجل ما عليه فإنه يسترق ويصبح عبداً للمسلمين. ولكن صلاح الدين لم يكن صارماً في استيداء الفدية من الفقراء، وروي أنه أعفى المئات من الفرنجة من دفعها.

كان المسيحيون بالقدس ينقسمون إلى طائفتين متميزتين هما: المسيحيون اللاتين وهم الفرنجة المنحدرون من أصول أوروبية الذين جاءوا مع الغزو الصليبي واستقروا بها، والمسيحيون الشرقيون من الأرثوذكس واليعاقبة والأرمن والسريان، وهم من أبناء البلد الأصليين وأغلبيتهم الساحقة من العرب. وكانت العلاقة بين الطائفتين يشوبها التوتر لا فقط بسبب الفوارق المذهبية التي أفرزها الخلاف المذهبي بين الكنيسة اللاتينية والشرقية، بل أيضاً بسبب الخلاف العرقي والحضاري والفجوة التي تفصل بين العنصرين الشرقي والغربي. وقد بلغ هذا التوتر إلى درجة التشكيك في الولاء لمملكة القدس اللاتينية. فاتهم المسيحيون الفرنجة إخوانهم المشارقة بالتآمر مع صلاح الدين ضد دولة الفرنجة، وأنهم هم الذين شجعوه على حصار المدينة والاستيلاء عليها. وفي هذا السياق يتحدث بعض الوثائق اللاتينية صراحة عن خيانة المسيحيين العرب والسريان وتآمرهم مع صلاح الدين، في حين تخلو المصادر العربية من مثل هذه التهمة ولا تتطرق إليها أصلاً، إلا أنها تذكر المعاملة الحسنة التي عومل بها المسيحيون الشرقيون في عكا وعسقلان ونابلس، وربما كانت هذه المعاملة هي الخلفية التي استندت إليها تلك  التهم. وعومل مسيحيو القدس المشارقة كما عومل إخوانهم في فلسطين وسمح لهم بالبقاء في بلدهم كأهل ذمة. مكث السلطان صلاح الدين شهراً في مدينة القدس أشرف خلاله على محو آثار العدوان الفرنجي الذي دام نحو تسعة عقود. فأعاد للمدينة وجهها العربي وطابعها الإسلامي ووضع حجر الأساس للمدرسة الصلاحية والمستشفى الصلاحي، وطهر المسجد الأقصى وقبة الصخرة مما دنس حرمتهما في إبان فترة الاحتلال الصليبي الطويلة.

No comments:

Post a Comment

شارك برايك