Sunday 20 February 2011

تطوير القدس خلال الاحتلال البريطاني

المصدر: بشير بركات- مدير دار إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون- القدس المحتلة:

أبدى العثمانيون عناية فائقة بتطوير مدينة القدس، ابتداءً بالتعميرات الضخمة التي أنجزها السلطان سليمان القانوني وانتهاءً بالمباني التي شُيدت في عصر السلطان عبد الحميد. ورغم محاولات بعض المؤرخين طمس هذه الحقيقة فإنّ تلك المنشآت ما زالت قائمة حتى اليوم. وبعد سقوط المدينة تحت السيطرة البريطانية اتخذ المحتلّون إجراءات لتطبيق أهدافهم الاستراتيجية، فتم تشكيل جمعية "محبي القدس" ثم وضعت خطط متتالية لتطوير المدينة وتم توسيع العمران باتجاهات تنسجم مع تطلعاتهم السياسية.

جمعية محبي القدس
سارع الحاكم العسكري البريطاني "ستورز" إلى تأسيس "جمعية محبي القدس" في شباط 1919 بهدف تحسين صورة الاحتلال البريطاني للمدينة من خلال جمعيةٍ تضم في عضويتها بريطانيين وعرباً ويهوداً. وطلب ستورز من المهندس الإنجليزي "كليفورد أشبي" العمل كمستشار للجمعية.

وكان هدف الجمعية المعلَن هو حماية وتطوير القدس ولوائها وسكانها. وقد تمّ اعتبار البلدة القديمة وحدة متكاملة داخل أسوارها. وبناءً على ذلك أُجرِيت أعمال التطوير فيها دون المس بطابعها المعماري. وكان أوّل عملٍ قامت به الجمعية هو تنظيف القلعة وتحويل برجها إلى غرفة معارض. وقام بذلك مسلمون لاجؤون من السلطان كان الأتراك قد زجّوهم في القلعة خلال الحرب العالمية. ومعظمهم من النساء اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب. وتم إعطاؤهم أجوراً زهيدة في عمل السُخرة.

ثم بدأت الجمعية بتنظيف أبواب القدس وإبعاد أصحاب المهن الذين كانوا يزاولون أعمالهم عند بعض الأبواب وعلى أسطحتها. وتمّ تحديد حجم القارمات واللافتات التي تعلّق فوق الدكاكين وعلى الجدران للدعاية. وتمّ ترميم الدرج الروماني في سلوان وحمام البطرك في حارة النصارى. وأزالت الجمعية برج الساعة الذي نُصِب في باب الخليل عام 1909 في ذكرى اليوبيل الفضي لاعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني عرش الخلافة، بحجّة بشاعة البرج، وكان الهدف الحقيقي إزالة ذكرى السلطان من أذهان السكان.

وأنفقت الجمعية ألف جنيه استرليني على تعمير سوق القطانين عام 1919، وكان أصحاب دكاكين السوق قد استخدموا أبوابها الخشبية الجميلة وقوداً خلال الحرب، فتمّت صناعة أبواب بديلة مشابهة. كما أزالت الجمعية طاحونة قمح كانت وسط السوق لإفساح المجال أمام الدكاكين.

لكن أشبي استاء من عدم جدية السلطات في حل مشكلات السكان العرب تحت إدارة المندوب السامي هيربرت صمويل. وحول السبب المباشر لاستقالته من عمله كتب في أوائل عام 1922 يقول:

"إن مشكلة تدفق مياه المجاري في وادي الجوز خطيرة جداً بالنسبة لنا ولغيرنا. والمسؤولية تقع على عاتق إدارة المدينة بالطبع. لقد قبلتُ تمويلاً من اللجنة الصهيونية ولكنني فشلت في تنفيذ العمل بشكلٍ فعّال. فهو مثل كافة الأعمال التي يتم القيام بها من أجل السياسية والدعاية وليس من أجل العمل بحد ذاته، أي أنّ العمل لا يتّصف بالإخلاص بمعنى الكلمة، وهذا ما تبيّن لاحقاً. إنّ أرقى حيّ إسلامي أصبح الآن غارقاً في مياه مجاري حي "مئا شعاريم"، حتى أنها كَوّنَت بركة في الوادي الجميل الواقع بين دار المفتي ودارنا. وبالنسبة لنا فإنّ ذلك يعني أننا لن نتمكن على الأرجح من البقاء في هذا المسكن. لقد أثار ذلك غضب الملاّكين، وهم كلهم مسلمون، فقدّموا اعتراضاً تلوَ الآخر، إلا أنّها أهملت جميعاً. ويبدو أنهم على الأرجح يفتقرون إلى درجة كافية من التضامن من أجل ممارسة ضغطٍ كافٍ على إدارة المدينة. ولو أنّ الأمر كان معكوساً، أي لو أنّ مياه المجاري تدفقت من حي إسلامي شعبي إلى أرقى أحياء اليهود لقامت ضجة واسعة في إسرائيل بحيث يصل صداها إلى الوول ستريت وبارك لاين. لكن أصدقاءنا المسلمين لم يتعلّموا قواعد اللعبة بعد، وقد يتم ذلك لاحقاً. وفي غضون ذلك أخبرتُ الإدارة أنني سأغادر البلدة ما لم يتمْ تأمين مسكنٍ آخر لي".

وفي تموز 1922 كتب يقول: "بعد أنْ رفض صمويل اقتراحي بإعادة هيكلة جمعية محبي القدس، والذي كان سيحلّ مشاكل السكن، فقد تمسكّت باستقالتي، وبهذا سنغادر فلسطين في نهاية الشهر". وتأسّف أشبي على مشاريعه وآماله والفريق الذي أشرف على تدريبه. ثم قال: "وسبب الاستقالة هو أنني خرجت من داري في وادي الجوز بسبب انهيار شبكة مجاري القدس. ولم تكنْ هناك فرص أخرى للسكن إلا في منازل ذات أجرة عالية، وحيث لم ترغبْ الإدارة بذلك فلم يبقَ أمامي سوى الاستقالة. وقد رفضت الإدارة تحمّل مسؤولية فشل نظام الشّبكة، مما أدّى إلى خلافات في الرأي مع اللجنة الصهيونية التي دفعت المال. وبعدئذ اقترحت الإدارة أنْ تدفع جمعية محبي القدس أجرة دار أخرى أنتقل إليها، وهذا ما رفضته أنا ورئيس الجمعية. وفي حزيران 1922 أدركت الإدارة عدالة قضيّتي فطلبت مني تقديم مطالبة بتعويض عن الأضرار التي لحقت بي".

تخطيط المدينة
عقب سقوط القدس بدأ المحتلّون بالإعداد لتطوير المدينة حسب الأهداف العليا التي صاغتها الحكومة البريطانية، وعلى رأسها توسيع وتنمية الأحياء الواقعة غربي السور وإبقاء المناطق الشرقية خارج حدود البلدية ومنع البناء فيها.

وقد استدعى الجنرال اللنبي مهندس مدينة الإسكندرية وليام مَكليان إلى القدس وطلب منه إعداد تقريرٍ وإرشادات حول الإجراءات التي ينبغي اتخاذها للتحكم في عمليات البناء وتطوير المدينة، مع مراعاة التقاليد المعمارية المقدسية وأهمية الحفاظ على المعالم التاريخية. فأشار مكليان على الحاكم العسكري أنْ يصدر بياناً يمنع البناء أو الهدم أو الترميم في دائرةٍ مركزها باب العامود ونصف قطرها 2500م دون الحصول على إذنٍ خطيّ بذلك. ووضع ماكليان مبادئ عامة تمّت مراعاة معظمها خلال فترة الاحتلال البريطاني وما بعده، ومنها: عدم السماح ببناء عمارات عالية في جبل الزيتون وجنوبي وشرقي البلدة القديمة حتى الثوري وسلوان وهدم ما أمكن من الأبنية التي كانت قائمة في تلك المناطق آنذاك، والتشدّد في منح رخص للبناء في المناطق التي تليها حتى جبل المكبر والعيزرية وجبل المشارف، وأنْ لا يزيد ارتفاع البناء في المناطق الأخرى على 11م فوق سطح الأرض، وعدم ترخيص أبنية لأغراض صناعية حول القدس، وتوسيع المدينة غربي السور وشماله. وقد تمّتْ المصادقة على المخطّط في تموز 1918 ووقّع عليه الحاكم العسكري ورئيس البلدية موسى كاظم الحسيني.

وفي عام 1919 استدعت جمعية محبي القدس المهندس باتريك جيديس وطلبت منه وضع تصوّرٍ حول إمكانات توسيع المدينة في المستقبل. فوضع مخطّطاً يختلف عن مخطط مكليان، لكنه التزم بمبادئه الرئيسة وخاصة منع البناء على جبل الزيتون وشرقي السور وجنوبيه. واهتمّ بتخطيط شبكة حديثة للطرقات أوسع من مخطط عام 1918. كما اقترح موقعاً لمشروع الجامعة العبرية على جبل المشارف.

وفي عام 1922 وضعت جمعية محبي القدس مخططاً جديداً للمدينة، يقسّمها إلى أربع مناطق رئيسة هي البلدة القديمة ومنطقة خضراء ومنطقة صناعية ومنطقة سكنية تجارية، وكان ذلك من أهمّ إنجازات الجمعية.

وفي عام 1929 وُضِع مخطّط آخر كان أبرز نقاطه حزام أخضر يحيط بالبلدة القديمة من الخارج، بحيث يمنع البناء مطلقاً حول السور ويتم هدم المباني القائمة منذ العهد العثماني تدريجياً. وفي عام 1936 بدأت الحكومة باتخاذ إجراءات لإزالة الدكاكين المجاورة لباب العامود، حيث أُمهِل مالكوها فترة للبحث عن أماكن بديلة، ثم هُدِمت المباني بعد بضعة أشهر وتمّ تعويض المالكين. وفي عام 1937 تمت إزالة أكوام الأتربة والنفايات المتراكمة خارج باب الساهرة وتم بناء سورٍ حجري منخفضٍ يفصل بين الشارع والسور شرقيّ الباب. وتم تخفيض مستوى الطريق الذي يصل بين باب الأسباط وطريق أريحا. ونتيجة لزلزال عام 1941 تأثّرت ثمانية دكاكين قديمة خارج باب الخليل، فكتب مهندس المدينة بارك تقريراً اعتبرها مبانٍ خطرة، حيث تم هدمها ومصادرة أراضيها.

أمّا مخطط عام 1930 فقد كان تفصيلياً دقيقاً حيث بيّن مخططات الشوارع وحدّد أقسام المدينة، واهتمّ بالمناطق الأثرية الواقعة غربي البلدة القديمة، وتمّ تحديد المناطق السكنية والتجارية والصناعية. أمّا المناطق الأثرية الأخرى فقد توجّب على الراغبين في البناء فيها الخضوع لتعليمات دائرة الآثار، وخضع الترخيص فيها لشروط خاصة. واهتمّ المخطط بالحفاظ على الطابع التاريخي للبلدة القديمة ومنع تشييد أبنية مرتفعة، وشدّد على أنّ جميع الأبنية الجديدة يجب أنْ تكون حجرية فقط، ومنع استخدام الصفائح الحديدية. كما تمّ تحديد أنواع الأعمال التجارية داخل البلدة، وتمّ تشجيع صناعة الفخار والقاشاني. وتم تخطيط شبكة حديثة للطرقات في الأحياء الجديدة خارج السور، ومُنِع البناء في المناطق التي ستشقها الشوارع المخططة. لكن هذا المخطط احتوى على أخطاء جسيمة لم تتّضح إلا بعد عدة سنوات أثناء التنفيذ، ومنها أنّه تسبب في اكتظاظ الأحياء السكنية الضيقة، واضمحلال الحدائق الخاصة.

وفي عام 1944 وُضِع مخططٌ جديد اهتمّ بتوسيع وتطوير شبكة المواصلات التي تصل القدس بالمدن الفلسطينية الأخرى. وقد بدأت خلاله محاولة جادة لفرض رقابة أكثر تشدّداً من ذي قبل على تحديد الشروط والمواصفات في المناطق السكنية والتجارية والصناعية ومنطقة المحمية الطبيعية.

وقد تمّ تقسيم المنطقة السكنية إلى ستّ درجات، وكانت أرقاها ضاحية مبنى الحكومة حيث جعلت المساحة الأدنى لترخيص البناء فيها 2000 متر مربع بحيث تُبْنى فيها مباني راقية ذات حدائق واسعة. أمّا الحد الأدنى في الدرجتين الثانية والثالثة فكان 1000 متر مربع، وفي الدرجتين الرابعة والخامسة 750 متراً مربعاً، وفي الدرجة السادسة 500 متر مربع وهي الواقعة غربي البلدة القديمة. وتم تحديد المنطقة التجارية شمال وغربي المدينة على امتداد كيلومترين. بينما تم تحديد منطقتين صناعيتين شمالي القدس وجنوبي غربها. أمّا منطقة المحمية الطبيعية فكانت جبل الزيتون وقسم من جبل المشارف.

وكان مخطط عام 1930 قد جعل الحدّ الأقصى لارتفاع البناء 25 متراً في المنطقة التجارية، فتمّ تخفيضه إلى 15 متراً أيْ ثلاثة طوابق في المخطط الجديد. وأمّا في المناطق السكنية والصناعية فكان الحدّ الأقصى للارتفاع 12.5 متراً. وسُمِح بالبناء على 50% من كل قطعة أرض تمنح رخصة للبناء في المنطقة التجارية، و75% في المنطقة الصناعية. أمّا المنطقة السكنية فقد كانت أكبر نسبة مسموح بها 25% وهي الفئة السادسة، وكانت أصغرها 10% وهي الفئة الأولى.

ونتيجة لتزايد ازدحام السكان بعد مخطط 1930 برزت الحاجة إلى ترخيص بناء شقق سكنية صغيرة الحجم وبناء عمارات سكنية كثيرة الشقق. وتمّ التشديد على بناء الجدران الخارجية بالحجارة نظراً لوفرتها في المنطقة ولأن المباني الاسمنتية شوهت بعض المناطق.

وتم تخصيص 180 دونماً تقع بين مبنى الكلية العربية وحي تلبيوت كملعبٍ لكرة القدم وساحة لنادي الجولف المقدسي، وهي منطقة لا تصلح للبناء بسبب نوعية تربتها حيث تتجمع فيها مياه الأمطار شتاءً مما يعرض الأبنية التي قد تنشأ عليها للتشقق.

وعندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء واقترب موعد رحيل البريطانيين عن فلسطين، كان يفترض أنْ تبدأ مرحلة توفير النفقات وإلغاء مشاريع التطوير كعادة المحتلّ قُبيل رحيله، لكن الأمر لم يكنْ كذلك حيث شكّلت القدس حالة استثنائية. فقد كتبت مجلة المنتدى الحكومية تقول:

"يبدو في جميع الأوساط في القدس اهتمام ملموس بعمران المدينة بعد الحرب. ويواصل المجلس البلدي البحث في هذا الأمر، ويدرس عدة مشاريع لانتقاء أحسنها ملاءمة للمدينة ولأحوال سكانها. ومن المشاريع التي اقترح تنفيذها، مشروع ينطوي على هدم جميع الأبنية الملاصقة لسور المدينة وتحويل الأراضي العراء المُتاخِمة له إلى حدائق غناء. وثمّة اقتراح آخر يرمي إلى إبقاء الأراضي الواقعة بين المدينة القديمة وجبل الزيتون خالية من الأبنية لأهميتها التاريخية. ويقدّرون النفقات اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع بمليوني جنيه".

أحياء جديدة
بدأ انتشار العمران خارج أسوار القدس بشكلٍ واسع في أواخر العهد العثماني، لكنّه ازداد كثافة خلال الاحتلال البريطاني كما بينّا آنفاً. ونضيف فيما يلي معلومات عن بعض الأحياء التي تكونت في تلك الفترة.

حيّ الشيخ جراح
استمدّت منطقة حي الشيخ جراح أهميتها التاريخية لوقوعها على الطريق المؤدّي إلى نابلس، حيث كان القادمون يستريحون عند مقام الشيخ جرّاح ثم في خان بني سعد قبل دخولهم إلى القدس. وازدادت أهميتها مع بناء قصر العماوي غربي المقام وقصر رباح الحسيني الذي بيع للأمريكيّين لاحقاً. وكانت غالبية الأراضي الواقعة غرب الحي وشماله مُلْكاً لأهالي قرية لفتا حتى، ثم باعوا أكثرها تدريجياً.

فبالنسبة للمنطقة الممتدّة من الباطن وحتى كرم المفتي والأرض التي بُنِيت عليها دار إسماعيل حقي الحسيني لاحقاً، فقد اشترى غالبيتها مواطن ألماني يدعى ماركس. وفي عام 1912 باعها المذكور لمواطن إيطالي يُدعى أرنستو سكاباريلي لصالح جمعية إيطالية، ثم وقَع خلاف بينه وبين الجمعية حول ملكية الأرض مما أسفر عن عرضها للبيع في شباط 1922 فاشتراها الدكتور كامل الحسيني وإسماعيل الحسيني مناصفة، وقاما بفرزها وتقسيمها إلى قطع أراضي واحتفظا ببعضها وباعا غالبيتها.

وأمّا المنطقة الشمالية فقد اشترتها عائلتا جار الله والنشاشيبي، حيث تملّكت عائلة النشاشيبي شرقي الشارع المؤدّي إلى رام الله وعائلة جار الله غربيَّه. وبنى رشيد النشاشيبي أول دار في المنطقة، وتبعه نفر من أقاربه وعائلة جار الله. واتّخذت العائلتان لموتاهما مقبرة صغيرة تقع غربي فندق الأمباسادور. وبعد النكبة أصبحت تلك المنطقة حياً للقنصليات، كما أقيم عليها مستشفى العيون الجديد.

حي تلبيوت
 بدأت فكرة تأسيس حي "تلبيوت" عام 1912 عندما قرّر البنك الأنجلو فلسطيني بناء ضاحيةٍ لموظفيه جنوبي القدس. لكن أعمال البناء تأخّرت ثماني سنوات بسبب الحرب العالمية الأولى، حيث بدأ بناء المنازل عام 1921. وقد اعتُمِدت خطةُ البناء التي صمّمها المعماري ريتشارد كاوفمان مبدأ الضاحية الغنية بالحدائق الخاصة. واشتملت على منطقة مشاة تجارية مركزية وعلى جانبيها مبانٍ عامة ومتنزهات. وكانت المنازل ذات طابقٍ واحد وأسطح قرميدية، وبعضها على طراز المباني التي أقيمت في "رحافيا" الغنية بالحدائق أيضاً. وكانت غالبية السكان موظفين في البنك الأنجلو فلسطيني.

وحيث إنّ منطقة تلبيوت كانت خارج حدود البلدية آنذاك، فقد رفضت البلدية تزويدها بالخدمات العامة. ورداً على ذلك رفض السكان دفع الضرائب وتولّى مجلس الضاحية مهام البلدية فقام بتزويد السكان بالخدمات الأساسية، أيْ أنّها أصبحت منطقة حكمٍ ذاتي إلى حدٍّ ما. وتمت جباية رسوم من السكان لتعبيد الطرق وصيانة المتنزهات وتأمين مواصلات عامة وافتتاح روضة أطفال ومدّ أنابيب مياه الشرب من خزّانات "روميما". ومُنِعت ممارسة التجارة باستثناء دكانين لبيع المواد الغذائية.

ومن معالم تلبيوت قبران جماعيّان دُفِن فيهما 290 قتيلاً هندياً سقطوا خلال خدمتهم في صفوف الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، الأوّل يضمّ رفات جنود مسلمين وعليه آيات قرآنية، والثاني يضم رفات جنود هندوس وسيخ وعليه عبارات باللغة السنسكريتية، وتوجد قائمة بأسماء هؤلاء القتلى في الكنيسة الصغيرة التابعة للمقبرة البريطانية على جبل المشارف.

حي القطمون
ومنها حيّ القطمون الواقع جنوب غربي القدس. واسمه مشتق من كات مونيسkat munis  اليونانية وتعني "بالقرب من الدير"، وهو دير القديس شمعون الواقع قرب الحي. ويعتقد بعض الباحثين أنّ هذا الاسم أُطلِق على المنطقة في العشرينات من القرن الماضي، عندما بدأ الأرثوذوكس العرب وخاصةً من حارة النصارى وبيت لحم وبيت جالا بشراء قطع أراضي بالقرب من الدير. لكن هذا الاسم كان شائعاً عند العرب منذ زمن بعيد، بل لقد كان مأهولاً لفترة وجيزة حسبما ورد في حجة صادرة عام 1808 عثرت عليها في سجلات محكمة القدس، حول نزاع وقع بين أهالي ناحية بني مالك وأهالي ناحية بني حسن وأسفر عن عقد صلح بينهما بوساطة "الحاج أحمد آغا قائمقام والي الديار القدسية" اتُفق فيه على أنْ يهدم أهالي بني مالك ما عمروه في "المكان المشهور بالقطمون" وأنْ يهدم أهالي بني حسن ما عمّروه في قرية سعيدة.

وكانت الكنيسة الأرثوذوكسية قد اشترت قسماً كبيراً من الأراضي التي قامت عليها أحياء القطمون والطالبية والبقعة ورحافيا وماملا. وفي عام 1859 بدأت البطريركية ببناء دير القديس شمعون وفرغت منه عام 1881. وقد تطوّرت المناطق المذكورة لتصبح أرقى أحياء القدس خلال الإحتلال البريطاني.

أمّا حي الطالبية المذكور فأقدم ذِكرٍ له وقعتُ عليه في سجلات محكمة القدس كان في حجةٍ صدرت عام 1675 حول مزرعة "بأرض البقعة ظاهر القدس الشريف الشهير في محله بالطالبية". وقيل إنّها تُنسَب إلى الوفائيّين أحفاد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكانت الكنيسة الأرثوذوكسية قد اشترت أراضٍ شاسعة في تلك المنطقة، وتمّ تأجيرها للصندوق القومي اليهودي "كيرن كيمت" بعقد تنتهي مدته عام 2051.

حي الشيخ بدر
ومنها حي الشيخ بدر الواقع شمال غرب القدس وهو جزء من قرية لفتا، وينسب للشيخ بدر الوفائي. وفيه تم تسليم القدس للغزاة البريطانيين صباح يوم 9/12/1917. وقد أسّسوا فيه حياً يهودياً عام 1339/1921 أطلقوا عليه "روميما". وبعد النكبة تمت إزالة غالبية مباني حي الشيخ بدر القديمة وتمّ إنشاء مبانٍ للحكومة والجامعة العبرية و"الكنيست" و"بنك إسرائيل" على أراضيه.



* الموضوع عبارة عن ملخصٍ لفصلٍ من كتاب "مباحث في التاريخ المقدسي الحديث"-الجزء الثاني للأستاذ بشير بركات، الصادر في القدس عام 1427/2006، ص 118-133.

No comments:

Post a Comment

شارك برايك