Thursday 24 February 2011

فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - تسليم مدينة القدس للفرنجة

المصدر: من كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي - خليل عثامنة - الطبعة الأولى ص 137-151

إذا كان تنافس أبناء صلاح الدين في شأن المُلك دفعهم إلى البحث عن مهادنة الفرنجة في فلسطين، وأدى بهم أحياناً إلى محاولة الاستعانة بهم على التصدي بعضهم لبعض. فإن الأمر بلغ ذروة غير مسبوقة في عهد الملوك من أبناء الملك العادل الأيوبي. إذ لم تقتصر علاقتهم بالفرنجة الجاثمين على أرض فلسطين ولبنان وسورية على المسالمة والمهادنة فحسب، بل تعدت ذلك أيضاً إلى التخلي عن فريضة الجهاد ضد الأوروبيين الغزاة، والتي لولاها لما وضعوا التيجان على رؤوسهم وتربعوا على عروش مصر وبلاد الشام. إذ بات أبناء الملك العادل وورثة عرشه يرون في الفرنجة قوة سياسية إقليمية لا يتورعون عن مهادنتها والتحالف معها في مقابل تنازلات إقليمية من دار الإسلام، إما ثمناً للحفاظ على عروشهم وكراسيهم، وإما تعززاً بهم لتصفية الحسابات الصغيرة فيما بينهم، وإما لتحقيق مطامح إقليمية في دول بعضهم البعض، وما أشبه الليلة بالبارحة.

صحيح أن الملك الكامل، سلطان مصر هو الذي أبرم صفقة التنازل عن مدينة القدس مع الإمبراطور فردريك الثاني، إمبراطور الدولة الرومانية، سنة 626ﻫ/1229م، إلا أن انفراده بهذا القرار لم يكن لينفي التهمة ذاتها عن باقي إخوته الملوك، لأنهم كانوا على استعداد لاقتراف الجرم نفسه فرادى أو مجتمعين قبل أن أقدهم أخوهم على فعلته. فقبل ثمانية أعوام من ذلك التاريخ، وفي سنة 618ﻫ/1221م، حين استولى الفرنجة على مدينة دمياط المصرية وبعد حصارهم المنصورة، وحين أخذوا يتحفزون للانقضاض على مدينة القاهرة وباقي البلاد المصرية، تبودلت الرسائل بين الملوك الأيوبيين والفرنجة، وكان مع الكامل آنذاك أخواه الملك المعظم عيسى، ملك الشام، والملك الأشرف موسى، ملك دمشق، وعرضوا على الفرنجة الجلاء عن مدينة دمياط، والتخلي عن عزمهم على مهاجمة القاهرة لقاء تنازل الأيوبيين عن مدينة القدس وعسقلان وطبرية وجميع ما حرره السلطان صلاح الدين الأيوبي من أرض الساحل في فلسطين ولبنان، بما في ذلك ميناءا جبلة واللاذقية في سورية. رفض الفرنجة هذا العرض واشترطوا تسليمهم أيضاً قلعتي الكرك والشوبك، وبعد أخذ ورد وافق الملوك الأيوبيون على تسليمها أيضاً. لكن المفاوضات لم تتم بشأن هذه الصفقة لأن الفرنجة أضافوا في اللحظة الأخيرة شرطاً جديداً، يقضي بأن يدفع الأيوبيون مبلغ 300,000 دينار (وقيل في رواية 500,000) في مقابل إعادة ترميم أسوار مدينة القدس وأبراجها التي كان الملك المعظم عيسى أمر بهدمها تحسباً لسقوط المدينة في أيدي الفرنجة حين شرعوا في الهجوم على دمياط.

الملابسات التي أدت إلى التسليم
أشرنا أعلاه إلى ما أسفرت عنه المطامح الإقليمية التي أبداها الملك المعظم عيسى إلى ضم المناطق التابعة لولاية حماة كالمعرة وسلمية، من تفجير الخلاف بينه وبين أخويه الملك الكامل والملك الأشرف. ثم ما تبع ذلك من إجبارهما له على الانسحاب من البلاد التي سبق أن احتلها، وهو ما أجج في صدره الغيظ ضدهما حتى أخذ يبحث عن حلفاء وجدهم ممثلين في الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وفي السلطان جلال الدين ابن الملك خوارزم شاه، ملك خوارزم، الذي كان يوسع نفوذه وحدود مملكته غرباً إلى درجة أنه أصبح يهدد الولايات الشرقية للمملكة الأيوبية التي كانت جزءاً من مملكة أخيه الملك الأشرف موسى. ودخلت اتصالات المعظم عيسى بسلطان خوارزم مرحلة متقدمة من التحالف الفعلي حين وعده أن يخطب له على منابر الشام ويضرب السكة (العملة) باسمه. فقام السلطان بإرسال الخلعة السلطانية إلى المعظم، الذي طاف شوارع دمشق وسككها مرتدياً إياها، وأعلن من ثم قطع الخطبة لأخيه الملك الكامل. ولما شعر الملك الكامل بالخطر، الذي يمثله تحالف أخيه مع سلطان خوارزم، لجأ إلى الاستعانة بالإمبراطور فردريك الثاني وطلب منه الحضور بجيشه إلى أرض الفرنجة على الساحل الفلسطيني ليعينه على مخاطر حلف أخيه مع ملك خوارزم. وترغيباً للإمبراطور في سرعة الحضور، عرض عليه الملك الكامل تسليمه مدينة القدس، التي كانت استعادها من أيدي المسلمين مذ حررها صلاح الدين مطمح كل مسيحي أوروبي وكل ملك من ملوكها وأمرائها، وتسليم الإمبراطور بقية الفتوح الساحلية التي أحرزها السلطان صلاح الدين.كان الإمبراطور فردريك الثاني قليل الحماسة للقيام بحملات صليبية كغيره من ملوك أوروبا الذين سبقوه، فلما وصلت عروض الملك الكامل إلى بلاط الإمبراطور في بالرمو في صقلية، رأى أن الفرصة أصبحت مواتية للقيام بحملة صليبية كي ينفي عن نفسه صفة المسيحي العاق التي ألصقتها به سياسة الكنيسة وقراراتها. ولذلك قرر الخروج في هذه الحملة (الحملة الصليبية السادسة) قاصداً ميناء عكا. فعرج على جزيرة قبرص ولم يصل إلى ميناء عكا إلا بحلول أيلول/سبتمبر 1228. أما الجماعات الأوروبية التي انضوت تحت لواء الإمبراطور وسبقت وصوله إلى عكا، فكانت قليلة العدد، ولم يكن في قدرتها إحداث تغيير في ميزان القوى في فلسطين، ولذا اقتصر نشاطها على أعمال الترميم لحصون بعض المدن الساحلية. أم أبرز ما فعله صليبيو هذه الحملة فكان إعادة ترميم أسوار مدينة صيدا اللبنانية.

كان وصول الإمبراطور إلى ميناء عكا متأخراً، فقد وصل بعد ما يقرب من عام كامل على وفاة الملك المعظم عيسى الذي كان يشكل تهديداً على مملكة أخيه الملك الكامل. وبموت المعظم عيسى لم يتم زوال الخطر الذي خشيه الملك الكامل فحسب، بل أيضاً أن الكفة رجحت تماماً لمصلحته، وباتت مملكة دمشق التي أورثها المعظم عيسى لابنه الناصر داود تترنح تحت تهديد الملك الكامل الذي كانت قواته تحاصر مدينة دمشق قاعدة هذه المملكة.

كان الملك الكامل لا يزال في معسكره في تل العجول حين جاءه رسول الإمبراطور يحمل الهدايا لنفيسة، ويطالبه بالوفاء بوعده تسليم مدينة القدس، لكنه أخذ يماطل ويسوف. وطالت مدة تبادل السفراء والرسل بين الطرفين إلى أن بلّغ الملك الكامل الرسل، في آخر المطاف، إحجامه عن الوفاء بالوعد، إذ ليس هناك من سبب وجيه يوجب تسليم القدس، لأن المساعدة العسكرية التي طلبها ثمناً للتنازل عنها لم تأت في وقتها، بل إنه لم يعد بحاجة إليها بعد أن تغيرت المعطيات على الساحة السياسية بعد زوال خطر المعظم عيسى. وفوق ذلك كله فإن القيام بخطوة متطرفة كهذه ستحدث زلزالاً في موقف  المسلمين وتؤذي مشاعرهم الدينية. وفي أثناء فترة الاتصالات وتبادل السفراء هذه ترك الإمبراطور عكا وتوجه إلى ميناء يافا وباشر أعمال تحصين أسوار المدينة وقلعتها ودفاعاتها، وكان يتلقى في الوقت نفسه تقارير عما يجري في أوروبا، وخصوصاً موقف البابا منه ومن حملته، فقد أصدر قراراً ضده يعلن الحرمان البابوي عليه، وأنه أصبح صاحب حق الوصاية على الإمبراطورية. أقلقت هذه الأخبار الإمبراطور وأحس بضرورة العودة إلى بلاده. لكنه كان يعلم بأن عودته صفر اليدين ستزيد أوضاعه حرجاً، ولذلك غير أسلوب مخاطبته للملك الكامل، ولجأ إلى أسلوب التذلل والاستعطاف، حتى قيل أنه بكى أمام رسول الكامل، قائلا: (لولا أني أخاف انكسار جاهي عند الفرنج، لما كلفت السلطان شيئاً من ذلك، وما لي غرض في القدس ولا غيره، وإنا قصدت حفظ ناموسي عندهم).

لم يلبث هذا الأسلوب من الاستعطاف الذي انتهجه الإمبراطور أن وجد آذاناً صاغية عند الملك الكامل، وبالتالي كان له أثر في قراره بالاستجابة لمطلبه. وعلى المرء أن لا يتغافل عن الاعتبارات السياسية الأخرى التي أخذها الملك الكامل في الحسبان. ففي مقابل وصمة العار التي ستلطخ جبينه بسبب تسليمه مدينة القدس لأعداء المسلمين، مع ما ينطوي عليه من مس بمشاعر المسلمين، كان هناك بعض الاعتبارات السياسية التي تدخلت في حسم هذا الأمر. فحرب الكامل ضد ابن أخيه، الناصر داود، مازالت محتدمة ولم تحسم بعد. وهناك الملك الخوارزمي السلطان جلال الدين الذي يشكل تهديداً استراتيجياً على مملكة الأيوبيين، بسبب استنجاد الناصر داود به لإنقاذ عرشه المهدد. وسيؤدي رفض الملك الكامل تسليم القدس، والوفاء بوعده للإمبراطور، إلى أن يقوم الأخير بتألب مختلف القوى والمجموعات الفرنجية في فلسطين وحشدها للبدء بجولة جديدة من الغارات والهجمات على أرض مملكة الكامل، وجراء ذلك سيكون هو ومملكته هدفاً لثلاثة أعداء في آن واحد.

وهكذا عززت هذه الاعتبارات والحسابات السياسية الرأي بضرورة الاستجابة لمطلب الإمبراطور الفرنجي، فردريك الثاني، وهو ما تمخض عنه اتفاقية الصلح في يافا في 12 شباط/فبراير 1229.

أثار تسليم مدينة القدس للفرنجة موجة عارمة من السخط والأسى في العالم الإسلامي. وكانت ردة الفعل شديدة، خصوصاً عند أهل المدينة. ولعل من المفارقة أن نشير إلى ما أحدثه تسليم مدينة القدس وإعادتها إلى حظيرة المسيحية من استنكار واستياء يصل إلى درجة الغضب لدى الأوساط الفرنجية، الدينية منها والدنيوية في بلاد المشرق. فرأى بعضهم أن كرامة النصرانية كانت تقضي بأن تنتزع المدينة عنوة بحد السيف من أيدي المسلمين لا عن طريق الاستخذاء والتذلل التي توسل بها الإمبراطور إلى الملك الكامل. وكانوا يرون أن استيلاء الصليبيين على المدينة من دون استيلائهم على مقدسات المسلمين هو أمر مرفوض لا تقبل به نفوس الفرنجة الأبية. وذهبت فئة صليبية أخرى إلى القول بأن الحصول على القدس من دون استعادة الكرك والشوبك والأردن لا قيمة له، ولو كان هذا مقبولاً لقبل الصليبيون ما عرضه عليهم المسلمون أيام حصار دمياط.

اتفاقية يافا
عقدت اتفاقية يافا بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني تحت إطار هدنة عامة بين المسلمين والفرنجة، لمدة عشرة أعوام وخمسة أشهر وأربعين يوماً تبدأ (18 ربيع الأول 626ﻫ/14 شباط (فبراير) 1229م). إلا أن جوهر هذه الاتفاقية كان يصب حول مدينة القدس وما ارتبط بها من مقدسات وقرى وشؤون إدارية، فنصت على ما يلي:

1- تسلم القدس للإمبراطور على أن تظل أسوار المدينة وتحصيناتها خراباً وألا تجدد الأسوار.
2- ألا يكون للفرنج موطئ قدم خارج مدينة القدس، وان تظل قرى بيت المقدس في أيدي المسلمين.
3- قرى بيت المقدس والضاحية يديرها وال مسلم، وتكون البيرة مقراً له.
4- يظل الحرم الشريف بما فيه من المعالم، كالصخرة والمسجد الأقصى، في أيدي المسلمين، ويظل شعار الإسلام فيه ظاهراً.
5- ألا يسمح للإفرنج بدخول القدس إلا بغرض الزيارة. ويكون المتولون على الأماكن المقدسة من المسلمين.
6- تكون القرى الواقعة على الطريق بين القدس وكل من عكا ويافا تحت إدارة الفرنجة لحماية أرواح الحجاج وضمان سلامتهم (بلغ عدد هذه القرى عشر قرى).

التطورات السياسية بين تسليم القدس وتحريرها الثاني سنة 1239
تميزت الأعوام العشرة التي أعقبت تنازل الملك الكامل عن مدينة القدس بالهدوء السياسي على الساحة  الفلسطينية. فبعد أن أُخرج الملك الناصر داود من دمشق واستقر بقلعة الكرك، كملك على الأردن وبعض أجزاء من فلسطين الوسطى، نابلس وبعض نواحي القدس، أبدى علامات الرضا عن عمه الكامل التي انعكست بإهدائه قلعة الشوبك. وأخذ مناخ العلاقات الحسنة يتعمق بين الطرفين، كما تدل على ذلك المصاهرة بينهما حين زوّج الملك الكامل ابنته عاشوراء للناصر داود. أما الأشرف فتنازل عن طيب خاطر عن بعض أجزاء مملكته في المشرق لقاء فوزه بعرش دمشق بعد أن نصبه الملك الكامل ملكاً عليها.

 وعلى صعيد العلاقة الأيوبية – الفرنجية لم تشهد هذه الفترة أي نشاط معاد لافت للنظر لأي من الطرفين تجاه الطرف الآخر. يعود ذلك بالضرورة إلى الاضطراب السياسي الذي حل في أواسط مملكة بيت المقدس الصليبية بعد أن رحل الإمبراطور فردريك الثاني. حتى أن عرش المملكة ظل من دون ملك حتى سنة 1268. أما الأيوبيون، الملك الكامل وإخوانه وباقي أمراء الشام، فقد شغلتهم الصراعات الداخلية من ناحية، وخوفهم من الخطر الخوارزمي الذي يهدد المملكة من الشرق من ناحية أخرى، عن استغلال الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنجة، فأمضوا تلك السنين في ترتيب الأوضاع الداخلية بين أمراء الأسرة، وفي تعزيز قبضتهم على الولايات الشرقية التي باتت عرضة للاجتياح من جانب ملك خوارزم جلال الدين شاه بعد أن استطاع أن ينتزع مدينة خلاط التي كانت جزءاً من مملكة الأشرف ابن العادل.
ما لبث الملك الأشرف أن بدأ يستعد للرد على سياسة التهميش التي اتبعها معه أخوه الملك الكامل، والتي تمثلت بصورة خاصة في تجريده من أملاكه في ولاية المشرق. فأقام تحالفاً تشكل من أمراء بلاد الشام ضد أخيه وسياسة الاحتواء التي مارسها. وكان ذلك بالتنسيق مع الملك السلجوقي غياث الدين كيخسرو، الذي كان منزعجاً من بسط نفوذ الكامل في مناطق الجزيرة وديار بكر وأذربيجان. علم الملك الكامل بهذا التحرك فأخذ يستعد لمهاجمة دمشق لانتزاعها من الأشرف. فاستدعى الناصر داود ملك الكرك، إلى القاهرة ليكون حليفه ضد الأشرف وتحالفه. ولما قدم إلى القاهرة قلده عرش دمشق، بعد أخذها من الأشرف. وكإجراء انتقامي على انضمام الناصر داود إلى معسكر الملك الكامل، أغار الملك الأشرف على مدينة نابلس، وكانت جزءاً من مملكة الكرك في ذلك الوقت. في هذه الأثناء وقبل أن يخرج الكامل من القاهرة مات الملك الأشرف، رأس التحالف الشامي، فورثه على عرش دمشق أخوه الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، بناء على وصية سابقة، لأن الملك الأشرف لم يخلف أبناءً ذكوراً. فقام الملك الجديد على رأس التحالف السابق، الذي لم يصمد أمام جيش الكامل حين وصل إلى دمشق. فتنازل الصالح إسماعيل عن دمشق وسلمها للملك الكامل وعُوّض عنها مدينة بعلبك. لم يف الكامل بوعده للناصر داود بعرش دمشق، فأخذ يتهيأ للعودة إلى الكرك. وشاءت الأقدار أن يلقى الكامل حتفه بعد قليل من دخوله دمشق في 21 رجب 635ﻫ/9 آذار (مارس) 1238م. فقرر الأمراء الموجودون في دمشق أن يبايعوا ابنه الملك العادل سلطاناً على مصر والشام، وأن ينوب عنه في دمشق الملك الجواد ابن مودود ابن الملك العادل. أزعج هذا الأمر الناصر داود الذي كان يأمل بعرش دمشق، كما أزعج الصالح أيوب ابن الكامل الذي رأى في نفسه الأحق بمُلك أبيه. لكن نائب دمشق الجديد الملك الجواد وبعد اتصالات سرية بينه وبين الصالح أيوب ابن الكامل، الذي كان يتولى أعماله في حصن كيفا في المشرق، تنازل عن عرش دمشق في مقابل ولاية سنجار، فقدم الصالح أيوب وتولى عرش دمشق. واتصل به أمراء مصر واستدعوه لتولي السلطنة بدل أخيه الملك العادل الثاني، فترك دمشق واستخلف ابنه الملك المغيث نائباً عنه فيها. أقام الصالح أيوب بنابلس ينتظر انضمام عمه الصالح إسماعيل النائب في بعلبك ليخرجا معاً إلى مصر. ولم يكن يعلم بأن عمه يخطط للوثوب على عرش دمشق الذي انتزعه منه أخوه الكامل، ولذا أخذ يماطل في الوصول إلى نابلس. ثم ضرب ضربته على حين غرة واستولى على دمشق وسجن الملك المغيث ابن الصالح أيوب. ولما سمع أمراء جيش الصالح أيوب بما حدث بدأوا بالتفرق عنه حتى بقي في نفر قليل من غلمانه وحرسه الشخصي.
وعندما استولى الصالح أيوب على دمشق، وحدث الانقسام بينه وبين أخيه الملك العادل، توجه الناصر داود، ملك الكرك، إلى مصر وأعلن تأييده للعادل ضد أخيه. ولما آل أمر الصالح أيوب إلى ما آل إليه وهو في نابلس أرسل الناصر داود كوكبة من فرسانه قبضوا عيه وحملوه إلى الكرك ليعتقله عنده في القلعة.

الناصر داود والتحرير الثاني للقدسانتهى أجل الصلح الذي نصت عليه اتفاقية يافا بين الملك الكامل، سلطان مصر، وبين الإمبراطور الفرنجي، فردريك الثاني بحلول السنة العاشرة من الهدنة بين الطرفين في سنة 1239. وكانت مملكة بيت المقدس لا تزال تعاني جراء آثار لاضطراب السياسي الذي أصابها بعد رحيل الإمبراطور عائداً إلى صقلية. وظل عرش المملكة شاغراً مع حلول هذه السنة. ومع ذلك ظلت مدينة القدس في أيدي الفرنجة، منذ ان سلمت لهم قبل عشرة أعوام، وكانت لا تزال من دون أسوار وتحصينات التزاماً ببنود الاتفاقية الآنفة الذكر، الأمر الذي جعلها هدفاً سهلاً أمام أي محاولة إسلامية لاستعادتها. ولما قاربت فترة الهدنة على نهايتها قام الصليبيون، مستغلين انشغال الحكام الأيوبيين بصراعاتهم الداخلية، بعمليات ترميم أسوار مدينة القدس وأبراج قلعتها التي لم يكن قائماً منها سوى برج داود بعد أن تركه المعظم عيسى سالماً ولم يدمره حين أمر بهدم أسوار المدينة وتحصيناتها في إبان أزمة دمياط. وقد ترافق الإجراء الفرنجي هذا مع وصول الحملة الصليبية الفرنسية التي خرجت في هذه السنة استجابة للدعوة البابوية، التي انطلقت من كنيسة الحبر الأعظم في روما، إلى تجنيد رعاياها الأوروبيين من أجل الحفاظ على سيطرة الصليبيين على مدينة القدس. هذه الحملة التي انخرط فيها أربعة من كبار أمراء المقاطعات الفرنسية، وعلى رأسهم أمير مقاطعة شامبين ثيوبولد الرابع.

كانت الترميمات التي أجراها الفرنجة في القدس خرقاً صريحاً لاتفاقية صلح يافا المذكورة، وعلى الرغم من ذلك لم يتحرك أحد من الملوك الأيوبيين سوى الناصر داود للتصدي لهذا الخرق. وعندما نما إلى علم الناصر داود بعمارة قلعة القدس، توجه على رأس جيشه وحاصر المدينة ورماها بالمنجنيق حتى دخلها عنوة بعد 21 يوماً من الحصار. وتحصن المدافعون من الصليبيين في برج داود فحاصرهم وضيق عليهم حتى أذعنوا له بعد أن منحهم الأمان، وذلك في أواسط جمادى الأولى 637ﻫ/ كانون الأول (ديسمبر) 1239م، بعد أن ظلت المدينة تحت سيطرة الفرنجة ما يقارب من 11 عاماً،ثم جعلها مقراً له.

كان تحرير القدس صدمة فاجأت قادة الحملة الفرنسية الذين كانوا يجمعون شمل عساكرهم في ميناء عكا. فلما اجتمع هؤلاء القادة لتدبير الأمر انقسموا على أنفسهم، فرأى بعضهم أن تُوجه الحملة إلى مصر للاستيلاء على أحد الميناءين دمياط أو الإسكندرية، كي يقايضوا به مدينة القدس. وذهب رأي آخر إلى ضرورة التوجه نحو دمشق. ودعا رأي ثالث إلى احتلال صفد لإعادتها قاعدة داخلية للصليبيين تنطلق منها هجماتهم على عمق البلاد الإسلامية. وطلب رأي رابع أن توجه حملتهم إلى القدس من أجل تدمير تحصيناتها تمهيداً لغزو دمشق. ولما سمع العادل الثاني، سلطان مصر، بذلك أرسل قوة عسكرية للدفاع عن عسقلان، حيث استطاع المسلمون تمزيق المهاجمين الصليبيين وإلحاق كارثة بهم. فعاد الناجون من الموت أو الأسر فارين بأرواحهم إلى عكا.

القدس تُسلم للفرنجة مرة ثانية
عندما حرر الملك الناصر داود بيت المقدس من أيدي الصليبيين، كان الصالح أيوب ابن الملك الكامل لا يزال معتقلاً عنده في قلعة الكرك. ولم يستجب الملك الناصر لطلب العادل تسليمه أخاه، لأنه كان يرى فيه ورقة رابحة يستطيع استخدامها في الوقت المناسب. وغني عن الذكر أن سياسة الناصر داود كانت تتمحور حول هدف استراتيجي واحد ووحيد هو استعادة عرش دمشق الذي استلبه منه عماه الملك الكامل والملك الأشرف.

في أواخر رمضان 637ﻫ/ نيسان(أبريل) 1240م، أفرج الناصر داود عن الصالح أيوب بعد سبعة أشهر من الأسر، واستدعاه ليلتحق به، وكان حينها في مدينة نابلس، ثم أعلن بيعته بالسلطنة للصالح أيوب، وأمر بالخطبة له بعد أن قطع الخطبة لأخيه العادل الثاني. ولدى انتشار خبر هذه البيعة أخذ أنصار الصالح أيوب ومماليكه يتوافدون إلى نابلس لوضع أنفسهم في خدمته وفي تصرفه. فخرج الناصر داود ومعه الصالح أيوب، مرشحه لسلطنة مصر، إلى بيت المقدس حيث عقدا حلفاً بينهما عند الصخرة المشرفة عرف باسم حلف الصخرة، تقتسم بموجبه المملكة الأيوبية بينهما، فتكون مصر لصالح أيوب، وتكون بلاد الشام وبلاد المشرق للناصر داود بعد أن يعاد له عرش مدينة دمشق.

بعد عقد حلف الصخرة خرج الحليفان نحو مصر وعسكرا بالقرب من مدينة غزة انتظاراً لوصول المؤيدين والأنصار. وإزاء هذه الحركة أخرج العادل الثاني جيشاً من مصر للقضاء على عسكر الحليفين، فأقام معسكره في بلبيس على الطريق إلى غزة، وكتب إلى عمه الصالح إسماعيل، ملك دمشق، ليرسل جيشاً نحو فلسطين، كي يضعا جيش الحليفين الخصمين بين فكي الكماشة، بين جيش مصر وجيش دمشق. وخوفاً من الوقوع في هذا الشرك لم يجد الحليفان، الناصر داود والصالح أيوب، بداً من ترك غزة والتراجع شمالاً، إذ عادا إلى مدينة نابلس وأخذا ينتظران ما سيحدث وهما في حيرة من أمرهما. ويروي المؤرخ ابن واصل في هذا الصدد أنه بينما كان الصالح أيوب يقف على جبل الطور/جرزيم إذ بنجاب يأتيه بكتاب أرسله قادة من عساكر مصر يستدعونه فيه إلى مصر ليولوه السلطنة. وكان عسكر مصر انقلبوا على العادل الثاني واعتقلوه في المعسكر الذي أقاموه في بلبيس. ثم توالت بعد ذلك رسائل أخرى من قادة مصريين آخرين يلحون في سرعة الوصول إلى القاهرة.

لم يطل انتظار الصالح أيوب في نابلس، فوصل إلى مصر بصحبة الملك الناصر داود حليفه، وتسلم سلطنة مصر، وتلقى بيعة العساكر والأعيان فيها، فتمت له السيطرة على مقاليد الأمور. وكما تنكر العادل الثاني لوعوده التي قطعها من قبل للناصر داود، تنكر كذلك حليفه الجديد الصالح أيوب للوعد الذي قطعه له بمقتضى حلف الصخرة. وفسر حنثه بوعده إنه إنما حلف اليمين مكرهاً عندما كان في الأسر. فعاد النصر داود على جناح السرعة إلى فلسطين بعد أن أستأذن مضيفه في السفر. وكانت بلغته أيضاً أمور أزعجته بعد أن قام الفرنجة بتحريض من الصالح إسماعيل، بالإغارة على المدينة فنهبوها وأسروا بعض أهلها حتى أنهم سلبوا منبر مسجدها.

انضم الناصر داود بعد عودته إلى فلسطين إلى التحالف المعادي للصالح أيوب، والذي كان يقف على رأسه الصالح إسماعيل، ملك دمشق. فلما أرسل الصالح أيوب جيشاً إلى فلسطين اشتبك جيش الناصر داود معه قرب مدينة القدس، وأوقع في جيش مصر هزيمة بعد أن أسر بعض قادته.

ونظراً إلى حرص الصالح إسماعيل على ضم الفرنجة إلى تحالفه المعادي للصالح أيوب، سلطان مصر، فإنه أظهر سخاء غير مسبوق كي يوافقوا على الانضمام إلى الحلف. إذ وعدهم بالتنازل عن أجزاء من لبنان، بالإضافة إلى حصة المسلمين في خراج مدينة صيدا. وفي فلسطين كان حجم التنازل كبيراً إلى حد لم يكن يحلم به الفرنجة. فبالإضافة إلى الجليل وطبرية وعسقلان على الساحل، فإنه تنازل لهم عن مدينة القدس بمزاراتها كافة، مخلا منطقة الحرم الشريف. وشملت قائمة التنازلات عدداً من القلاع المهمة التي سبق أن حررها السلطان صلاح الدين، مثل صفد وطبرية وتبنين وشقيف أرنون وهونين وتيرون، وكانت في هذا الوقت مدمرة، لكن كان من السهل تحويلها إلى قلاع حصينة بعد شيء من الترميم، وهو ما فعله الفرنجة بالنسبة إلى بعضها.

ولعل أطرف ما ذكر في هذا الصدد ما يرويه المؤرخ ابن شداد في (الأعلاق الخطيرة) عما حدث عندما تقدم الفرنجة لاستلام شقيف أرنون (أو قلعة بوفور). فقد رفض قائد القلعة الأيوبي أن يسلمها للقائد الصليبي بارون صيدا، ولما بُلّغ الملك الصالح إسماعيل بذلك استدعى قائده إلى دمشق وانزل به عقوبة الإعدام.لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد، فقد رفض نائب قائد القلعة، شهاب الدين أحمد الشقيفي، هو الآخر أن يسلم القلعة للفرنجة، وكتب رسالة إلى الملك الناصر داود يطلب منه النجدة، فأسرع الأخير بإرسال راياته لترفع على القلعة إشعاراً بأن ملكيتها عائدة إليه وأنها بحمايته، لكنه لم يكن في وضع يمكنه من تقديم العون الفعلي للعسكر المدافعين عنها. وعندما رأى الصالح إسماعيل إصرار جنوده على رفض التنازل عن القلعة، اضطر إلى إرسال جيش من دمشق لمحاصرتها، عندها سلم القائد وجنوده القلعة لعسكر دمشق، لئلا يقال إنهم سلموها لعسكر الفرنجة.

حاول الفرنجة الاستفادة من طرفي النزاع الأيوبيين. فبعد أن أكملوا استلام المواقع التي تنازل عنها الصالح إسماعيل، اتصلوا بالصالح أيوب السلطان في مصر، وكان يمر، آنذاك، بأزمة ولاء من جانب قادته، فكان مستعداً لتقديم أي تنازلات للفرنجة يكسب بواسطتها ودهم. فسلمهم مدينة عسقلان والمناطق لمدينة غزة، وأطلق لهم مئات الأسرى الإفرنج الذين كانوا في أسره، وشرعوا بعد ذلك في تحصين مدينة عسقلان. وفي أعقاب المعركة التي قادها التحالف الأيوبي- الفرنجي بالقرب من غزة والهزيمة التي لحقت بالمتحالفين فيها، قرر زعيم الفرنجة ثيوبولد، أمير شامبين، مغادرة عكا إلى فرنسا. وترافقت عودته مع وصول الحملة الصليبية الإنكليزية التي قادها ريتشارد دو كورنواي، شقيق ملك إنجلترا وصهر الإمبراطور فردريك الثاني، وذلك في حزيران/يونيو 1240. وقام ريتشارد على الفور باستئناف أعمال التحصين التي شرع فيها سلفه في عسقلان. وأرسل الصالح أيوب، ملك مصر، يعرض عليه معاهدة جديدة تكون مكملة للمعاهدة السابقة التي عقدها مع أمير شامبين الفرنسي. وتضمن عرضه هذه المرة استعداده للاعتراف بشرعية التنازلات التي قدمها خصمه الصالح إسماعيل للفرنجة، بحيث تصبح مناطق الجليل، وضاحيتا يافا وعسقلان، وكل نواحي مدينة القدس، بما فيها بيت لحم ومجدل يابا، بالإضافة إلى طبرية وصفد وقلعتي كوكب والطور، داخلة كلها في مملكة بيت المقدس اللاتينية، وأن تبقى مدن نابلس وعسقلان وبيسان والخليل وأريحا في أيدي المسلمين. رحب الفرنجة بهذا العرض وعقدوا الاتفاقية مع الصالح أيوب في ربيع سنة 1241. وبعد أن عاد ريتشارد دو كورنواي إلى بلاده في أيار/مايو من السنة ذاتها، عاود فرسان الداوية أعمالهم العدوانية، لأنهم كانوا يعارضون المعاهدة مع المسلمين، وهاجموا بعض نواحي فلسطين، كنابلس والخليل. وعندما وصلت المفاوضات والوساطات التي كانت تجري للمصالحة بين ملك مصر وكل من ملك دمشق وملك فلسطين إلى طريق مسدود، عاد الاستقطاب من جديد بين المعسكرين المتنافسين، وحاول الطرفان الأيوبيان في هذه المرحلة أيضاً خطب ود الفرنجة. فعرض عليهم كل طرف من جانبه تنفيذ الوعود المتعلقة بتسليمهم مدينة القدس مع إعطائهم الحق في تأدية شعائرهم الدينية داخل الحرم الشريف، وهو أمر لا سابقة له، إذ كان استثني الحرم الشريف في اتفاقية يافا التي عقدها الملك الكامل مع الإمبراطور. وبذلك يكون الملوك الأيوبيين الثلاثة وحلفاؤهم من أمراء الشام قد أقروا فعلاً بمبدأ استيلاء الفرنجة على الحرم الشريف، إذ استفاد الفرنجة من السياسة ذات الوجهين. لكن هذه السياسة لم تكن لتستمر إلى أمد بعيد، فعندما بلغ النزاع بين المتنافسين شفا الحسم، كان لزاماً على الفرنجة أن يحسموا أمرهم مع أي طرف هم.وفي هذه المرحلة تغلب جناح فرسان الداوية الذين كانوا يرون ضرورة التحالف مع الأمراء الشاميين ضد ملك مصر. وهكذا اتخذ ملوك الشام وحلفاؤهم من الفرنجة القرار بغزو مصر، بعد أن وعدوا الفرنجة بحصة مجزية منها إذا ما استولوا عليها، إضافة إلى ما مُنحوه من أرض فلسطين والجنوب اللبناني.

الخوارزمية يحررون القدس ويرجحون كفة الصالح أيوب
أغلق التحالف الأيوبي- الفرنجي ضد الصالح أيوب كل الأبواب أمامه لإيجاد حليف يقف إلى جانبه في بلاد الشام، اللهم إلا ملك حماة التي بقيت شبه جيب معزول تطوقه بلاد أعضاء التحالف. ولم يبق أمامه إلا مواليه من الخوارزمية ممن كانوا أعلنوا ولاءهم له عندما كان ينوب عن أبيه في الولايات الشرقية، وكأنه ادخرهم لمثل هذا اليوم. فأرسل إليهم كتاباً في أواخر سنة 641ﻫ/حزيران (يونيو) 1244م يستحثهم على الحضور.

ولما استلم الخوارزمية رسالة الصالح أيوب التي يدعوهم فيها إلى دعمه ونصرته خرجت طلائعهم في مستهل سنة 642ﻫ/1244م، وقطعت نهر الفرات نحو بلاد الشام. وكان عددهم يربو على 10,000 مقاتل، على رأسهم أربعة مقدمين أكبرهم المقدم حسام الدين بركة خان، وانضم إليهم مقاتلون أكراد عرفوا باسم القيمرية نسبة إلى بلدة قَيْمَر. وبعد أن اجتازوا نهر الفرات ودخلوا بلاد الشام انقسموا إلى فرقتين: واحدة أخذت طريق البقاع من تحت بعلبك، وأخذت الأخرى طريق الغوطة، وأمعنوا في النهب والقتل والسبي، وعندما وصلت أخبارهم إلى مسامع الناس انزووا عن طريقهم ولاذوا بالفرار. حتى إن الصالح إسماعيل، ملك دمشق ورأس التحالف المعادي للصالح أيوب، استدعى قواته وكتائبه المنتشرة وتحصن داخل مدينة دمشق.

كانت مدينة القدس أول مدينة استهدفها الخوارزمية. ففر الناصر داود ومعه قواته، وكان مرابطاً على مقربة من المدينة، ودخل الكرك. أما قوات الفرنجة التي كانت ترابط فيها، فأسرعت في الانسحاب منها. فاقتحم الخوارزمية المدينة وبذلوا في أهلها من النصارى السيف من دون تمييز وأخذوا النساء والأطفال أسرى. ثم دخلوا كنيسة القيامة ونبشوا القبور التي فيها، ومنها مرقد المسيح، وأحرقوا عظام الموتى. وبعد فراغهم من القدس توجهوا نحو مدينة غزة، وضربوا معسكرهم على مشارفها، ثم أرسلوا إلى الصالح أيوب يبلغونه بوصولهم، فأرسل إلى قادتهم ومقدميهم الخلع والأموال والهدايا.
 
في هذه الآونة خرج من مصر جيشان: كان يقود الأول ركن الدين بيبرس البندقداري، مملوك الصالح أيوب الذي كان معتقلاً معه في قلعة الكرك، فنزل غزة وانضم إلى الخوارزمية. وكان يقود الجيش الآخر الأمير حسام الدين أبو علي الهذباني وتمركز في مدينة نابلس.
 
أما جيوش التحالف الشامي-الفرنجي فكانت احتشدت في غزة استعداداً لغزو مصر. ولما تكامل وصول الخوارزمية وعساكر مصر حدث الاشتباك ودارت الدائرة على جيوش التحالف، ففر قادتها ومقدموها حتى دخلوا دمشق. ثم أحاط الخوارزمية بعسكر الفرنجة ووضعوا السيف فيهم قتلاً وأسراً، وسيق أسراهم إلى القاهرة وكانوا بالمئات، فأمر الصالح أيوب بأن تزين شوارع القاهرة احتفاء بالنصر. وكانت حامية من الفرنجة أفلحت في تحصين مدينة عسقلان بعد أن تنازل عنها الصالح إسماعيل، فتوجه بعض كتائب جيش مصر لمحاصرتها.

بعد معركة هَرْبيا توجه جيش مصري ثالث إلى دمشق يقوده الأمير معين الدين الحسن ابن شيخ الشيوخ، ودخل في إمرته عساكر الخوارزمية، وضرب حصاراً على المدينة امتد إلى جمادى الأولى 643ﻫ/تشرين الأول (أكتوبر) 1245م، حين تم الاتفاق على خروج الملك الصالح إسماعيل والتنازل عنها للصالح أيوب.
أسفرت هذه الجولة من الصراع بشأن السلطة بين حكام الأسرة الأيوبية عن تغير إداري إقليمي تأثرت به فلسطين أكثر من غيرها من ولايات بلاد الشام، فكانت بتبعيتها الإدارية- السياسية تنتقل من يد إلى أخرى حتى استقرت بعد معركة هَرْبيا في يد الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل. فصارت بإمرته مناطق غزة والساحل الجنوبي وبيت المقدس وبيت جبرين والخليل وبيت لحم ونابلس وبيسان والأغوار- وكانت قبل معركة هربيا مع الناصر داود – ما عدا مدينة القدس التي سلمت ثانية للفرنجة بعد تحررها الثاني. وتقلصت دولة الناصر داود لتقتصر على الكرك والبلقاء وعجلون.

No comments:

Post a Comment

شارك برايك