Friday 25 February 2011

نيابة القدس

المصدر: كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي (خليل عثامنة)


نيابة القدس






كانت القدس، ومنذ بداية  الدولة المملوكية في بلاد الشام، ملحقة بنيابة دمشق إدارياً. فكان لنواب دمشق الحق وصلاحية تعين ولاة هذه المدينة وبقية أعمالها، وتعيّن جميع أصحاب المناصب الإدارية فيها. لكن هذا الحق لم يكن حقاً مطلقاً غير قابل للنقض, إذا كان لسلاطين المماليك في القاهرة، مقر السلطة المركزية، أن يمارسوا صلاحياتهم الإدارية متجاوزين بذلك صلاحيات نواب دمشق من دون أن يشكل ذلك خرقاً لشرعية الولاية التي منحوها لنوابهم فكانوا يعزلون من يشاؤون ويعينون من يشاؤون في هذه الولاية التي  منحوها لنوابهم  فكانوا يعزلون من يشاؤون من الدولة ففي سنة 680هجري /1281-1282م، على سبيل المثال لا الحصر، وحين وصل السلطان قلاوون الألفي إلى غزة عندما كان في طريقه لزيارة دمشق قام بعزل والي القدس الأمير عماد الدين بن أبي قاسم وعيّن مكانه الأمير نجم الدين السونجي، من دون علم أو استشارة نائب دمشق الذي كان نطاق ولايته يمتد من العريش جنوباً حتى بلدة سلمية شمالاً وفي سنة 711هجري /1311-1312م، التاريخ الذي أنشئت فيه نيابة غزة، قرر السلطان الناصر محمد بن قلاوون أن يلغي التبعية الإدارية لكل من القدس ونابلس والخليل والرملة واللد وقاقون لنيابة دمشق ويلحقها إدارياً بنيابة غزة التي استحدثها, ومثلما كان السلاطين يقلصون نطاق الولاية الإدارية لنائب الشام، كانوا يستطيعونه بتوسيع مناطق النفوذ الإداري لهذه النيابة متى شاؤوا وهو ما فعله السلطان الناصر نفسه  إبان سلطنته إرضاءً لنائب دمشق الأمير تنكز الحسامي، كما بينا من قبل.

 كان تحول القدس إلى نيابة، ذات بعد إداري محض، يعني إسباغ الاستقلالية الإدارية على هذا لإقليم، الذي كان يشكل إحدى الوحدات الإدارة (الولايات) التابعة لنيابة دمشق إلغاء تبعيته الإدارية وصار السلطان هو الذي يصدر إلى الأمير الذي يختار لإدارة دمشق كتاب التعين، ومن ثم يحمل لقب نائب السلطنة بدل الألقاب التي كانت تغدق على الذين سبقوه في تولي هذا المنصب فلا يحق والحالة هذه لنائب دمشق، لأي جهة أخرى، عزله إلا بقرار من السلطان.

وتضطرب الروايات المتعلقة بالشؤون الإدارية في العهد المملوكي، بشأن التاريخ الذي حولت فيه ولاية القدس إلى نيابة، وصارت ثالث نيابات فلسطين المملوكية بعد صفد وغزة وقبل الخوض في هذه المسألة يجب أن ننبه إلى التدخل الحادث في المصطلحات التي تطلقها المصادر على الذين كانوا يولون منصب الحاكمية الإدارية لولاية القدس وغيرها من الولايات في مصر وبلاد الشام، إذا كانت تتناوب مصطلحات، مثل الوالي، والنائب ومقدم العسكر، من دون تدقيق في الأبعاد القانونية/الإدارية والفوارق القائمة بينها، وكان يحدث أحياناً نوع من الخلط بينها، وخصوصاً لدى مؤلفي الحوليات التاريخية المتأخرة, فقام بعض هؤلاء بإطلاق مصطلحاتٍ إداريةٍ كانت تستعمل في أوقاتٍ متأخرةٍٍ وعمموها لتشمل الفترات التاريخية السابقة على الرغم من أنها لم تكن تستعمل خلالها, فعلى سبيل المثال، نرى ابن تعزى بردي يطلق صفة النائب على والي القدس سنة 709 هجري /1309 -1310م، وهو الأمير سيف الدين كراي المنصوري، عندما كانت القدس في هذه الفترة المبكرة، ما زالت جزءا لايتجزأ من ولايات دمشق وقبل مايقارب 70عام من تحويلها إلى نيابة

ويتضح اضطراب الروايات  من خلال إيراد  تواريخ  متباينة  متصلة بإنشاء نيابة القدس, فيورد سهيل زكار رواية يقتبسها عن مخطوطة ((المقصد الرفيع المنشأ)) فحواها أن القدس أصبحت نيابة سنة 767هجري/1365-1366م،عندما عين في هذا المنصب أمير برتبة طبلخاناه, وعلى الرغم من أن الرواية  خلت من ذكر مصطلح نيابة فإن تحديد رتبة الإمرة للشخص الذي وضع على رأس المنصب الإداري لهذه الولاية يكفي كدليل على تحويلها إلى نيابة مستقلة عن نيابة دمشق، إذ جرى عادة قبل هذا التاريخ أن يولي نواب دمشق رجلاً برتبة جندي، ليس له صفة الأمر في الجيش المملوكي ولا حتى الرتبة الأدنى في سلم الإمارة

ويورد المؤرخ الفلسطيني الأصل ابن حجر العسقلاني تاريخاً آخر لإنشاء نيابة القدس، ففي تغطية لأحداث سنة 777 هجري/1375-1376م، أيام سلطنة الأشراف شعبان بن حسين، وعند الإشارة إلى الهيكلية الإدارية في دولة هذا السلطان، نجده يقول ((وفيها استقرار تمراز في نيابة القدس، وهو أول من وليَّ نيابتها وكانت قبل ذلك يكون فيها والٍ من جهة والي الولاية بدمشق))

إن الوضوح التام في عبارة ابن حجر لا يترك مجالاً للشك في شأن تاريخ استحداث هذه النيابة، وفي شأن طبيعة التغير الذي حدث مقارنة برواية مؤلف كتاب (المقصد الرفيع المنشأ)، التي أشرنا إليها، والتي تنطوي على شيء من الغموض. وتعزيز أقوال  القلقشيندي رواية العسقلاني بخصوص هذا التاريخ، وذلك بقوله (ونائب القدس الشريف، وهو ممن استحدث نيابته في الدولة الأشرفية، شعبان بن حسين في سنة سبع وسبعين وسبعمئة، كانت قبل ذلك ولاية، وهو طبلخاناه)واللافت للنظر في هذا السياق صمت المقريزي صاحب كتاب (السلوك) وعدم ذكره هذا التاريخ وما تم فيه من استحداث هذه النيابة، وجاءت الأحداث في إبان السلطنة الثانية للسلطان برقوق (1389-1398)، يتحدث عن خروج برقوق من القاهرة نحو تيمورلنك ونيته مهاجمة بلاد الشام. فيذكر أنه عندما وصل السلطان إلى غزة قام ببعض الإجراءات الإدارية المتعلقة بولايات فلسطين، والتي كان ضمنها تعينه الأمير قردم الحسيني في منصب نيابة القدس. ويرد ذكر هذا الخبر الذي يورده المقريزي عند كل من ابن الصيرفي وابن قاضي شهبة, لكن الأخير لا يذكر الأمير قردم الحسيني, وإنما يذكر أميراً آخر عيّنه برقوق لنيابة القدس هو الأمير شهاب الذين ابن البريدي.

إن هذه الرواية على أهميتها وتواترها في أكثر من مصدر, يجب ألا ينظر إليها على أنها دليل على استحداث نيابة القدس في ذلك التاريخ، أي سنة 796هجري /1394م، كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين. فهي من جهة لا تلغي صحة التاريخين  السابقين، ويجب أن ينظر إليها على أنها خطوة إدارية روتينية كان يمارسها السلاطين ضمن صلاحيتهم في تعيين الأمراء في النيابات  من جهة أخرى فالقدس كنيابة كانت قائمة قبيل سلطنة برقوق ولا شيء مما ذكر يقول أنه كان هو الذي استحدثها

ولابد من أن نشير في هذا السياق إلى تاريخ آخر ساهم وروده في المصادر في زيادة الاضطراب المتعلق بتاريخ استحداث هذه النيابة. فقد ذكر المؤرخ الفلسطيني ابن مدينة القدس، القاضي مجير الدين الحنبلي العليمي (860-928هجري /1455-1521م) أن إنشاء نيابة القدس جري قبيل نهاية القرن الثامن الهجري بقليل،أو نحو سنة 800هجري /1397-1398م، وذلك من دون أن يحدد السنة التي تملك فيها ذلك إذ يقول:(وكان في الزمن السالف توليه النيابة والنظر من نواب الشام. ولم يزل الأمر على ذلك إلى نحو الثمانمائة، ثم عاد الأمر من السلطان بالديار المصرية. وهو مستمر إلى يومنا)

ولعل أهم ما انطوت عليه عبارة العليمي تلك الإشارة التفسيرية التي توضح البعد الإداري للتحول من ولاية إلى نيابة، وهي أن نواب القدس، منذ سنة 800 هجري /1397-1398م، صار يعيّنهم السلطان في القاهرة، ولم تعد لنواب نيابة الشام صلاحية في تعينهم أو في عزلهم. ومن الجدير بالذكر أن قرب التاريخ الذي ذكره العليمي من التاريخ الذي عين فيه السلطان برقوق قردم الحسيني، هو الذي أوهم الباحثين المعاصرين، الذين أشرنا إليهم، بأن استحداث نيابة القدس كان أيام سلطنة السلطان المذكور.

نيابة القدس والهدف من استحداثها:

في أثناء تعرض الباحثين للتاريخ الذي استحدثت فيه نيابة القدس، تصدي بعضهم لمحاولة استجلاء الأهداف التي توخاها السلاطين المماليك من وراء إنشاء هذه  النيابة. فعزا بعضهم ذلك إلى خوف المماليك من احتمال نجاح الصليبين في استرداد سيطرتهم على المدينة المقدسة، وربط بين هذه النية والتحالف الذي سعوا لإقامته من التتار من أجل تحقيق هذه الرغبة. وعلى أساس هذه المخاوف التي كانت تساور نفوس السلاطين من ضياع القدس فجعلوها نيابة مستقلة عن نيابة دمشق عسى أن يستطيع نوابها اتقاء مخاطر الطموحات الصليبية. وكي يثبت أصحاب هذا الرأي صحة ما ذهبوا إليه، أشاروا إلى بعض الأحداث التاريخية التي سبقت تكوين هذه النيابة، أو حدثت بعد تكوينها، وجعلوها قرائن يستدلون بها لإثبات دعواهم.
ورأى آخرون أن استحداث نيابة القدس إنما جاء استعداداً من جانب الدولة المماليك لمواجهة التهديد العسكري الذي يمثله المغول خلال الربع الأخير للقرن الثامن الهجري/ الرابع عشر ميلادي،على خلفية بوادر الاجتياح الشامل لبلاد الشام الذي كانوا يعدون له. ولذلك ربط هؤلاء إنشاء النيابة بسلطنة برقوق الثانية حين كان متوجها من القاهرة إلى بلاد الشام عندما أصبح خطر المغول داهماً

وذهب فريق ثالث إلى إن الرغبة من استحداث النيابة إنما قصد به إضعاف نواب دمشق في ضوء محاولاتهم الانفصالية عن الحكومة المركزية في القاهرة عاصمة المماليك ومن دون الخوض في تفصيلات هذه الدعاوي، فأنه من الضروري أن ننظر إليها في إطار الاجتهادات البحثية التي قد تصيب أحياناً وقد تخطئ أحياناً أخرى. فخطر استرداد الصليبين للقدس على خلفية الغارة البحرية التي شنت على ميناء الإسكندرية سنة 1369، أو الغارة التي شنتها بعض سفنٍ بحريةٍ أوربيةٍ على ميناء يافا بعد ما يقارب من 35 عاماً، لم تكن أولا، وقبل كل شيء ذات مباشرة من الناحية الزمنية على الأقل، لا بالتاريخ المبكر لاستحداث النيابة ولا بالتاريخ المتأخر الذي أشارت إليه المصادر. وبالإضافة إلى ذلك فإن مثل هذه الغارات لم يكن يشكل خطراً حقيقاً يمكن أن يبشر بغزو شامل على فلسطين وبلاد الشام, لأنه لم يكن هناك ما يشير إلى غزو كهذا فعلاً في ذلك الوقت. وكان من الواجب أن يوضع مثل هذه الغارات في الإطار المناسب، لأنها كانت حلقة في سلسلة أنشطة متواصلة لقراصنة البحر واللصوص والبحارة الأوروبيين. فكان يتمادى بعض زعماء هذه العصابات من المغامرين، فلا يكتفون بالاستيلاء على سفن المسلمين في عرض البحار، بل كانوا يهاجمون الموانئ البحرية الإسلامية وحملهم كأسرى طمعاً في الحصول على الأموال التي كانت تدفع لافتدائهم. أم الخوف من النزاعة الانفصالية التي كان يبديها بعض نواب الشام. والتي تمثلت في كثير من أعمال التمرد والعصيان التي أعلنوها، فلم تكن ظاهرة جديدة وطارئة، وإنما كانت ظاهرة قديمة تعود إلى الأيام الأولى لقيام دولة المماليك،واستمرت خلال القرنين السابقين- الثالث عشر والرابع عشر- اللذين سبقا إنشاء نيابة القدس، فكانت تنفجر بين الحين والآخر. فلو كانت النزعة الانفصالية دافعاً مقلقاً لسلاطين المماليك لما انتظروا أكثر من قرن كامل كي يفصلوا جزءاً من الأراضي الفلسطينية عن مناطق نفوذ الشام وينشئوا نيابة مستقلة،لما قام بعض السلاطين بخطوات عملية لتقوية نواب دمشق وتوسيع نطاق نفوذهم على ولايات أخرى من بلاد الشام في فلسطين وغيرها، كما فعل الناصر محمد بن قلاوون مع نائب دمشق المشهور الأمير تنكز الحسامي الذي أشرنا إليه.

ومن الدوافع الثلاثية التي مر ذكرها، يبدو أن الخوف من خطر الاجتياح المغولي الأسبق أيام جينكيزخان حين وصلت طلائع التتار الغازية إلى غزة ووقفت عند حدود مصر، بعد أن عاثت فساداً في كل بقعة من بقاع فلسطين بما فيها مدينة القدس. فكانت خطوة الظاهر برقوق عملاً لابد منه لبث الطمأنينة في نفوس أهل هذه المنطقة وتثبت رباطة جأشهم إزاء الاجتياح المتوقع. ومع ذلك يجب إلا يسقط المرء من اعتباراته  التنافس المحموم بين المماليك

الأتراك والمماليك الجراكسة الذي كان محتدماً في هذه الفترة، وسعي كل طرف منهما لإضعاف الطرف الأخر وكسب مراكز القوى المملوكية إلى جانبه. فجاءت هذه الخطوة الإدارية، كواحد من أوجه التنافس القائم بين هاتين المجموعتين.

نيابة القدس ونظار "الحرمين الشريفين":

وظيفة نظار "الحرمين الشريفين"، حرم بيت المقدس والحرم الإبراهيمي في  الخليل، كانت وظيفة قديمة تعود إلى الأيام الأولى لتحرير بيت المقدس من الاحتلال الصليبي. فيذكر الحنبلي، مؤلف كتاب (الأنس الجليل)أن السلطان صلاح الدين اختار الشيخ موسى بن غانم الأنصاري وعينه ليتولى مشيخة الحرم ونظارته والتصرف في أوقافه. ثم إقتفى حكام الأسرة الأيوبية خطى صلاح الدين في هذا الشأن، ودرجوا على تعين ناظر ليشغل هذه الوظيفة. وعندما قامت دولة المماليك عين السلطان الظاهر بيبرس أحد الأمراء الكبار الذين كانوا في جيشه، الأمير أيد عدي بن عبد الله  الصالحي النجمي، الذي اشتهر بلقب علاء الدين الأعمى، ليتولى نظارة "الحرمين الشريفين"، فظل هذه الوظيفة إلى بعد انتقال السلطنة إلى السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي. وعندما استحدث وظيفة النيابة في الرابع الأخير من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، درج سلاطين المماليك على الجمع بين وظيفة النيابة ووظيفة نظارة "الحرمين الشريفين"، فكان يتولاهما أمير واحد. لكن الجميع بين الوظيفتين لم يتحول إلى عرف إداري ثابت إلى ما شاء الله.كما أنه لم يتحول إلى قاعدة إدارية لا محيد عنها، فكما كانتا تجمعان معا لأمير واحد، كانتا تفصلان إحداهما عن الأخرى ليولى في كل وظيفة أمير. وظل أمر الجمع والفصل على هذا النحو حتى قارب القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي على نهايته، حين قام السلطان الظاهر سيف الدين برقوق في آخر أيام سلطنته، سنة 800هجري/1397-1398م، بفصل الوظيفتين وإيقاف ظاهرة الجمع بينهما. ولما تولى السلطنة من بعده ابنه فرح بن برقوق تبني قرار أبيه المتعلق بالفصل واستمر في تنفيذه، بل أضفى على القدس، سنة 808هجري /1405-1406م وأصدر مرسوماً خاصاً بهذا الشأن يأمر بفصلهما وعدم جمعهما في يد أمير واحد، ثم نقش هذا المرسوم السلطاني على رخامه وألصقها على جدار باب السلسة على يمين الداخل من الباب. وبعد موت السلطان فرح، لم يحافظ السلاطين الذين اعتلوا العرش ممن بعده على مبدأ الفصل وعادت ظاهرة الجمع ليعمل بها من جديد. فلما قام بالسلطنة الأشرف برسباي (1422-1438)جمع الوظيفتين، والنيابة ونظارة "الحرمين الشريفين"، في يد الأمير أركاس الجلباني.

لكن السلطان جقمق الذي خلف الأشرف برسباي في السلطنة أبطل الجمع بين الوظيفتين وجعلهما منفصلتين كما كانتا أيام فرح بن برقوق. ففي سنة 843هجري /1439-1440م، كانت الوظيفتان مجموعتين معاً في يد الأمير طوغان السيفي الطنبغا العثماني، فقام السلطان جقمق بفصلهما، وعين في وظيفة نظارة
"الحرمين الشريفين" الأمير غرس الدين خليل بن أحمد السخاوي، بينما استمر الأمير طوغان العثماني في منصب النيابة. وبعد هذا التاريخ لوحظ الميل لدى السلاطين إلى الاستمرار في عملية الفصل بينهما، فمن خلال المعطيات المتقطعة التي توردها المصادر على هذا الصعيد يتبين أن عملية الفصل كانت قائمة خلال النصف الثاني من القرن التاسع الهجري /الخامس عشر الميلادي، خلا بعض السنوات التي شذ فيها  السلاطين عن هذه القاعدة كما حدث سنة 889هجري /1484م، حين عين السلطان الأشرف قايتباي أحد أمرائه، المدعو جان بلاط، نائباً  للقدس وناظراً للحرمين الشريفين.

وعلى خلفية هذه  الحقائق التي توردها المصادر، نستطيع أن نفهم سبب الاستدراك الذي أورده مجير الدين الحنبلي العليمي، من أنه على الرغم من توقف عملية الجمع بين الوظيفتين منذ سنة 800هجري فإن ظاهرة الجمع لم تختف كلياً، بل ظل بعض السلاطين يمارسها بعد هذا التاريخ، فاستمرت حتى أربعينيات إلى خمسينات التاسع الهجري.لكن هذا الاستدراك على أهميته يفتقر إلى الدقة نظراً إلى أن ظاهرة الجمع في يد الأمير الواحد عادت فظهرت في أواخر القرن التاسع كما رأينا.

نظارة "الحرمين الشريفين"
وظيفة دينية أم وظيفة مدنية؟

عندما تطرق بعض الباحثين إلى موضوع الإدارة في نيابة القدس، جعل من وظيفة نظارة "الحرمين الشريفين" واحد من الوظائف. إلا أن تصنيفها من الوظائف الدينية يتعارض مع المعطيات والبيانات المتعددة التي أوردتها المصادر بشأن مواصفاتها، وعن صلاحيات متوليها الذي أطلق عليه صفة الناظر. كما أنها تتناقض مع نوعية وطبيعة الأنشطة التي كان يمارسها كجزء من الصلاحيات التي يخوله إياه تعينه فيها. وهي كلها بيانات وأنشطة لا تمت بصلة إلى طقوس العبادة والشعائر الدينية المفروضة على المسلمين. ولعل من أوضح الأدلة التي تثبت كينونتها المدنية المحضة، أن الذين اختارهم السلاطين المماليك لتوليها كانوا في غالب الأحيان من القادة العسكريين من أمراء المماليك، إذ كانت الصفة الغالبة عليهم جهلهم باللغة العربية، لا بل بمعرفة الفقه والأحكام الشرعية وأية علوم دينية أخرى، توفر لهم الحد الأدنى الذي يؤهلهم لتولى المناصب الدينية التقليدية – كإمامة المساجد والخطابة على المنابر والأذان، ناهيك عن مهمة التدريس في المدارس والخانكاهات الصوفية. ولم يكن هذا الأمر بمستغرب في مجتمع المماليك إذا علمنا بأن بعض أمرائهم ممن اعتلوا عرش السلطنة كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، إلى درجة أنهم لا يعرفون أن يكتبوا أسماءهم، وأن قسماً من هؤلاء لم يكن يحسن التكلم بالعربية، ولا يعرف غير اللغة التركية أو الجركسية.
استمر اختيار السلاطين  لموظفين من أبناء هذه الطبقة على الرغم من أنه كان يحدث أحياناً أن يتولاها موظف من رجال الدين أو ممن اشتهر باسم المعممين. وكان الجمع بين وظيفة نظارة "الحرمين الشريفين" ووظيفة نيابة القدس إثباتاً آخراً على البعد المدني لهذه الوظيفة، لأن وظيفة النيابة في القدس وفي النيابات الأخرى في بلاد الشام، كانت مقصودة دائماً على أمراء المماليك. من ناحية أخر فإن نوع الصلاحيات التي كان يمارسها النظار الذين تولوا هذه الوظيفة كانت كلها تصيب في النواحي الإدارية المتصلة بإدرة الأماكن المقدسة والمؤسسات الخيرية ذات الطابع الاجتماعي. فكان الناظر هو الذي يتولى الأشراف على أموال الأوقاف التي ترصد للحرمين والمؤسسات التابعة لهما، وهو الذي كان يتولى إنفاق هذه الأموال على إعمار الأماكن المقدسة وتطوير مرافقتها. وكانت له الصلاحية في تعين الموظفين للقيام بالمهمات ذات الطابع الديني التعبدي،  كأئمة المساجد وخطبائها ومؤذنيها، أو الإشراف على المشاريع الخيرية وأعمال البر، مثل سماط الخليل الذي كان يطلق عليه مائدة الخليل، المتمثل في تقديم الوجبات المجانية الراتبة لزوار الحرم الإبراهيمي أو للمجاورين فيه أو للمسافرين المارين من أمامه أو لفقراء الناس المقيمين بالخليل.
وبالإضافة إلى كل هذا كانت صلاحيات الناظر أحياناً تتعدى هذا النطاق لتشمل أمورا إدارية محضة بعيدة كل البعد عن الأماكن  المقدسة أو مؤسساتها أو مرفقها، مثل صلاحية جباية الأموال وفرض الضرائب على أهل ناحيته، وهو ما فعله الفقيه أبو سعد الهروي مع أهل الخليل عندما تولى وظيفة ناظر "الحرمين الشريفين" سنة 1418 في أيام سلطنة المؤيد أبو النصر شيخ.

مناطق نفوذ نيابة القدس وحدودها:

يورد القلقشندي في تلخيص المعلومات الإدارية المتعلقة بنيابة القدس أسماء الوحدات الإدارية الملحقة بهذه النيابة أو تلك التابعة لها، فيذكر كلا من ولاية الرملة واللد والخليل وقاقون ونابلس. لكن المعلومات التي يقدمها هذا المؤلف الموسوعي، على أهميتها، لا تعكس الصورة الدقيقة للخريطة الإدارية في هذه النيابة، لا لشيء سوي كونها تعاني جراء المفارقات الزمنية، إذ كانت تغطي جانباً من الفترة المملوكية فقط، ولم تكن تشمل المتغيرات في المعطيات الإدارية والتنظيمية التي حدثت  في القرن الأخير من تلك الفترة التاريخية، والذي يبدأ بوفاة القلقشندي سنة 821هجري /1428م، وينتهي سنة 922هجري /1516م، تاريخ زوال دولة المماليك وخضوع فلسطين لحكم الدولة العثمانية. من ناحية أخرى، فإن تلك المعلومات تعاني عدم الدقة وتتميز بالتعميمية التي قد تكون قريبة من الوقع بالنسبة إلى هذه الولاية أو تلك لكنها تجانب الحقيقة بالنسبة إلى بعض الولايات.
فبالنسبة إلى ولاية الرملة لا ينطبق ما يورده القلقشيندي مع وصفها الإداري الذي كان سائدا في عصره حتى وفاته. فقد كانت الرملة ولاية منفصلة قائمة بذاتها ولها والٍ خاص بها، منذ أن أصبحت وحدة إدارية في عهد الأيوبيين. ثم استمرت على هذا الحال أيام الدولة المملوكية. ولاسيما أيام حكم السلاطين المؤسسين، الظاهر بيبرس، ومن بعده السلطان قلاوون الألفي. وكانت ولاية الرملة في هذه الفترة المبكرة من التاريخ المملوكي ولاية فتية ناشئة، تقع على خط المواجهة العسكرية المتقدم بإزاء جبهة الفرنجة على الساحل الفلسطيني، وبحكم ذلك كان يولى عليها إداري مملوكي برتبة جندي، ليس له نصيب في رتب سلم الإمارة المملوكية. وظل وضع الرملة الإداري بهذا المستوى المتدني حتى نهاية دولة المماليك الأتراك التي اختتمت بسلطنة حاجي بن شعبان بن حسين، حفيد السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 784هجري /1382م. ولما جاء السلطان الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك الجراكسة في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، تغير المستوى الإداري لولاية الرملة، إذ أصبح واليها يختار من الأمراء الذين يحملون رتبة طبلخاناه. وكان والي الرملة منذ مطلع القرن التاسع الهجري /الخامس عشر الميلادي، يحمل صفة إدارية غير مألوفة هي (كاشف الرملة)بدلاً من صفة والي الرملة، علماً بأنه لم يكن لهذه الصفة أي صلة بالرتبة العسكرية التي يحملها. ولم يأت تغير مرتبة ولاية الرملة على ما يبدو، من دون سبب، فقد سبق ذلك إلحاق وحدتين إداريتين بولاية الرملة هما ولاية اللد والمجاورة وولاية قاقوق التي كانت الحد الجنوبي لمناطق نفوذ نيابة صفد الفلسطينية. فأصبحت مدينة الرملة مركزاً لهذه الولاية الموسعة التي كانت طوال الوقت المقر الإداري لكاشف الرملة.


No comments:

Post a Comment

شارك برايك